في الرابع عشر من أغسطس من كل عام، تحتفل باكستان بعيد استقلالها الوطني، قبل يوم واحد فحسب من جارتها الهند التي اختارت اليوم الخامس عشر موعداً لاحتفالها. وقد برزت كلتا الدولتين للوجود في عام 1947، حين قررت بريطانيا الانسحاب، تاركة وراءها دولتين منفصلتين عن بعضهما البعض، فيما كان يعرف سابقاً باسم الهند البريطانية. ورغم أن الفكرة الرئيسية وراء فصل باكستان عن الهند، هي توفير موطن آمن للأقلية الباكستانية المسلمة الكبيرة الكثافة وقتئذ، فإن باكستان نفسها لم تكن دولة إسلامية في بدايات نشأتها. فقد كان مؤسسها وحاكمها العام الأول، "محمد علي جناح"، علمانياً وذا نزعة تحديثية، وكان قريب الشبه بكمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة، في مرحلة ما بعد الإمبراطورية العثمانية. وكما هو حال جارتها الهند، فقد ورثت باكستان الكثير من المؤسسات والتقاليد البريطانية، بما فيها الهيئة القضائية المستقلة، والصحافة الحرة، فضلاً عن النظام البرلماني. لكن بينما ازدهرت وترسخت الديمقراطية في الهند، فقد عصفت بالسياسات الباكستانية الحديثة، سلسلة من الخصومات والتنافسات، وكذلك ممارسات سوء الإدارة وانعدام الأمن، يضاف إليها تفشي موجة العنف في شبه الجزيرة الهندية كلها، في مرحلة ما بعد الاستقلال. وبالنتيجة فقد تخللت الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، فترات من الحكم العسكري. ومواصلة لهذا النمط السياسي السائد هناك، فقد تمكن الجنرال برويز مشرف، رئيس أركان حرب الجيش الباكستاني، من فرض نظامه الأتوقراطي على البلاد، عقب انقلاب عسكري أطاح بالحكومة المنتخبة القائمة ديمقراطياً في عام 1999. ورغم الشعبية التي حظي بها انقلابه من قبل الشارع الباكستاني الذي ملّ عجز وفساد الحكومات المدنية المتعاقبة في بدايات عهد "مشرف"، إلا أنه وجد نفسه اليوم في مواجهة عزلة شعبية متسعة ضُربت حول نظامه. ذلك أنه تمكن من إقصاء كل من العلمانيين والعناصر الراديكالية المتطرفة من شرائح المجتمع الباكستاني، بينما بدا أكثر ميلاً للتعبير عن رغبات أميركا وإرادتها، مع العلم أن موجة العداء للإدارة الأميركية الحالية، ماضية في الاتساع هي الأخرى في باكستان. ورغم إعلان "مشرف" عن عزمه على إجراء انتخابات برلمانية تقرر عقدها بحلول فصل الخريف المقبل، إلا أن تداخل عدة عوامل داخلية مقترنة بالأزمات التي لحقت بسياساته الخارجية، إلى جانب تصاعد ظاهرة الإرهاب المتطرف داخلياً... أدت كلها إلى تزايد المخاوف من أن يوضع الجنرال أمام أحد خيارين: إما أن يضطر لتأجيل موعد الانتخابات والاستمرار في حكم البلاد بموجب القوانين الحالية، أو أن تطيح به مجموعة الضباط العسكريين المعارضين لنظامه، وهؤلاء أشد تطرفاً وعداءً للغرب منه. ومع أنه يروق للجنرال مشرف تسليط الضوء على هذا الخطر الانقلابي بالذات، إلا أنه وفقاً لغالبية المراقبين والمحللين الدوليين، فإنه وفيما لو أجريت انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة في الموعد المحدد لها من العام الحالي، فإنه من المرجح أن يكون الفوز فيها لصالح الأحزاب السياسية المعتدلة، بقيادة كل من رئيسة الوزراء السابقة، "بنازير بوتو"، وخلفها "نواز شريف"، مع العلم أن "مشرف" قد أطاح بحكومة الأخير وأقر أحكاماً بحق بوتو. ومن رأي المحللين والمراقبين أنه سوف يسهل على هذه الأحزاب، إلحاق الهزيمة بالجماعات الإسلامية المتطرفة التي حظيت بمساندة نظام مشرف سابقاً. بعبارة أخرى، وخلافاً لما هو عليه حال الانتخابات الديمقراطية النزيهة التي أجريت في عدد من بلدان الشرق الأوسط، وأسفرت عن وصول الإسلاميين المتشددين إلى السلطة هناك، فإن الذي يتوقعه المراقبون والمحللون السياسيون في باكستان، أن تسفر انتخاباتها عن فوز الفئات العلمانية المثقفة التي لا تزال تتطلع إلى تلك المؤسسات العلمانية المتحررة، والتي شهدتها باكستان عقب الإعلان عن استقلالها. وبهذا نصل إلى المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة في علاقتها الحالية بباكستان. وتتلخص هذه في أن إدارة بوش قد استثمرت كثيراً في رهانها على نجاح نظام مشرف وقدرته على الاستمرار والبقاء، مدفوعة في ذلك بتثمين دوره ووقوفه معها في حربها المعلنة على الإرهاب، لاسيما في أفغانستان. فمنذ عام 2001، تلقت باكستان مساعدات مالية أميركية بلغت قيمتها ما يزيد على 10 مليارات دولار، خصص معظمها لميزانية الجيش الباكستاني. لكن رغم ضخامة المساعدات المالية هذه، فإن الجيش الباكستاني لم يكن مستعداً بعد، لاستخدام كامل قوته وعتاده الحربيين، في شن هجمات عدوانية ضد مقاتلي تنظيم "القاعدة" وقوات حركة "طالبان"، وكلاهما ينشطان في المحافظات الشمالية الغربية القريبة من أفغانستان. وكما هو متداول في شتى وسائل الإعلام، فقد أعلن المرشح الرئاسي "الديمقراطي"، باراك أوباما، أنه وفي حال عدم استعداد إسلام أباد لمواجهة أعداء الولايات المتحدة الأميركية، الذين يخططون ويشنون عملياتهم العدوانية من داخل الحدود الباكستانية، فإن على أميركا أن تشن عملياتها أحادياً ضد أهداف أعدائها هناك. وإنه لغني عن القول: إن هذا التصريح قد أثار موجة غضب عارمة في شتى أنحاء باكستان. وفيما لو عجز الجنرال برويز مشرف عن بدء العملية السياسية الكفيلة بإعادة باكستان إلى نظام الحكم الديمقراطي، حيث الحريات وسيادة حكم القانون، لا أحكام الطوارئ، فمن الحتمل أن تمر باكستان بأزمة سياسية خانقة، ربما تهدد بانتشار تداعياتها الخطيرة على امتداد المنطقة كلها، بل ربما إلى ما وراءها أيضاً. والمفارقة المثيرة للسخرية هنا، أن الحالة الباكستانية، هي إحدى الحالات النادرة التي ربما تسفر فيها مساندة واشنطن لقوى التحول الديمقراطي، عن نتائج إيجابية في الصراع ضد التشدد الإسلامي. هذا وسوف يكون في وسع حكومة مدنية قوية في إسلام أباد، تحسين العلاقات مع كل من نيو دلهي وواشنطن، في ذات الوقت الذي تتمكن فيه من استقطاب دعم شعبي أكبر لشن هجوم واسع النطاق على المتطرفين وحلفائهم في كل من تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". وهذا هو ما يستوجب إصرار الولايات المتحدة على أن يفي الجنرال برويز مشرف بوعده، وأن تعقد الانتخابات البرلمانية المقررة في موعدها المحدد لها من خريف العام الحالي. ومن هنا فقد أقنعت وزيرة الخارجية الأميركية مؤخراً، الجنرال مشرف بعدم فرض حالة الطوارئ في بلاده. غير أنه يبقى من واجبها أيضاً، إقناعه بإعادة سدة الحكم إلى المدنيين بأسرع ما يمكن.