لا أقصد باستعادة المشروع القومي إعادة نموذجه الذي جعل بعض المثقفين العرب ينفرون منه بعد عقود من تجاربه المريرة، ومن نكساته الشهيرة التي تحمّل مسؤوليتها الفكر القومي عبر رموزه الحاكمة، لكن الفكر بريء من سوء تطبيقه حتى ولو اعترض الذين يربطون الفكر بالنتائج، بحجة أن الحق يعرف بالرجال. لكنني أرى أن الرجال يُعرفون بالحق. وأنا لست ضد المقولة التي طالما رددتها (الأمور بخواتيمها)، لكن الأمور شيء والفكر شيء آخر، فالإسلام بوصفه فكراً وديناً غير مسؤول عن سوء الفهم وسوء التفكير والتطبيق. وكذلك الفكر القومي بوصفه انتماءً ومشروعاً لوحدة أمة غير مسؤول عن الفهم الضيق للقومية، وعن ربطها بأفكار أخرى مثل الماركسية التي لم يحظ الوطن العربي بتطبيق عادل لما فيها من مقاصد إنسانية. وأنا أدرك أن مقولة: "اقرأ تفرحْ جرِّب تحزنْ" تصحُّ بشكل ما على تجربة المشروع القومي، فثمة فارق بين الحلم وبين الحكم، وقد فرَّق بين الحالتين صديقي الشاعر الكبير سليمان العيسى حين سُئل عن سر ابتعاده عن السلطة وهو الذي كان من الرواد المؤسسين لحزب البعث العربي فقال: "لقد آثرت الحلم على الحُكم". ولكن أحلام الأوائل لم تخب كلها، صحيح أن حلم الوحدة السورية- المصرية تحول سريعاً إلى كابوس، وأن نكسة حزيران وجهت ضربة قاسية للمشروع القومي، وكانت شبه نهاية تراجيدية لأبرز رموزه (جمال عبد الناصر)، ولكن هذا المشروع قدم خطوة إلى الأمام في حرب أكتوبر، حين نهض من الشعور بالهزيمة معنوياً، لكن العرب لم يستطيعوا استثمار نتائج الحرب. وأعتقد أن النكسة الثانية التي واجهت المشروع القومي كانت في قبول بعض العرب لمبدأ الخلاص الفردي مما جعل العرب الذين خاضوا الحرب معاً ينقسمون إلى فريقين، أحدهما: ما يزال في حالة مواجهة وصراع، والثاني: دخل في حالة سلام وتطبيع مع إسرائيل. وقد واكب هذا الانقسام افتعال صراع مع إيران، جعل بغداد التي كان بوسعها أن تشكل مركز قوة ضخماً للمشروع القومي، تتجه نحو عدو مُفتعل بدل أن توفر قواها لعدو حقيقي. ولم تحقق الحرب الإيرانية- العراقية أي انتصار يذكر سوى انتصار على المشروع القومي العربي الذي تلقى ضربة قاضية حين انتهت الحرب بغزو صدام للكويت وما جر من تدخل أجنبي جعل الوطن العربي قاعدة عسكرية كبرى لحلفاء إسرائيل. لم يعد بوسع أحد من العرب بعد تلك الضربات القاسية أن يتحدث عن الوحدة العربية التي كانت شعار الأجيال، فقد تقلص حلم الوحدة إلى البحث عن الحد الأدنى من التضامن العربي، وقد مرت مراحل كثيرة لم يكن تحقيق هذا الحد الأدنى فيها ممكناً، حتى إن الجامعة العربية وجدت نفسها مهددة بالانفراط لولا جهد عروبي أمسكها بقوة. والسؤال الذي يمكن أن يطرح، هل كان المشروع القومي بوصفه فكراً هو المسؤول عن هذا الإخفاق كله؟ إن تأمل ما حدث يكشف أن المشروع القومي تعرض لاختطاف.. تماماً كما تعرض المشروع الإسلامي لاختطاف. ولم يكن هذا الفكر مسؤولاً عن قيام صدام بغزو الكويت، كما لم يكن الفكر الإسلامي مسؤولاً عن التطرف المقيت الذي أسهم في تشويه صورة الإسلام. وكما أن المسلمين في العالم كله لن يتخلوا عن الإسلام مهما حاول أعداؤه من الداخل والخارج تشويه صورته، فإن العرب كذلك مسلمين ومسيحيين لن يتخلوا عن كونهم عرباً وأمة واحدة، وما يزال الحامل العربي هو المخرج الآمن من حالة التمزق المُريع الذي أصاب الأمة، وهو حامل يجد في الإسلام كما في المسيحية ما يعزز قوته وينهض بمشروعه من جديد. والسؤال الآن: هل بوسع العرب أن يستعيدوا مشروعهم القومي بعد كل ما أصابه من ضربات ووهَن وضعف؟ أقول: نعم، بوسعهم ذلك، بل إن طريق الخلاص الواضح أمامهم هو استعادة كونهم أمة واحدة. وأدرك أن الدعوة إلى استعادة المشروع القومي تتطلب جهداً فكرياً أرجو أن يسهم فيه العرب جميعاً، وأن تتم مراجعة كبرى لتفاصيل هذا المشروع، واعتراف بأخطائه الفكرية والتطبيقية، وأن تبنى رؤيته الجديدة على قاعدة الواقع ومعطياته، وأن يجد العرب وسيلة لاستعادة القوى الكبرى التي خرجت من المشروع، ووجدت نفسها هامشية فيه، بل إن بعضها صار مُطوقاً بالمشروع الصهيوني الذي لبس قناعاً جديداً، وبدَّل اسمه إلى مشروع "الشرق الأوسط الجديد". وأدرك أن إيجاد الوسيلة أمر صعب للغاية، ولكن العرب اليوم يدركون جميعاً أنهم مهددون، وأشدهم تعرضاً للتهديد هو الفريق الذي يخترعون له أسماء ترويجية، مثل صفة: الاعتدال، التي تعني أن الفريق الآخر هو الفريق المتشدد. مع أنه الفريق المرن الذي ينادي بالسلام ولكنه يريده سلاماً عادلاً وشاملاً وليس استسلاماً وهواناً، والعدل المطلوب.. عدل نسبي. لأنه عدل مستمد من الواقع والممكن وليس من التاريخ القريب، ولم نعد ندري كيف يكون الاعتدال فوق ذلك! إن الصمت العربي الراهن على ما يجري في العراق من قتل يومي مريع وحالة تهجير شعب العراق بشكل يومي من أرضه ووطنه بحثاً عن الأمان، وتحول أخبار الدمار إلى أنباء عادية لا تستفز أحداً، ولا تعنيه، هو أمر يهدد كل الأقطار العربية بمستقبل دموي عبر الصراعات المفتعلة التي نجد نماذجها في لبنان وفلسطين، وغير بعيد أن تمتد إلى أقطار عربية أخرى، فيكون الاحتلال الصهيوني للأمة قد حقق أهدافه البعيدة في نشر الفوضى والدمار في كل مكان. وهذا هو المقصود بـ"الشرق الأوسط الجديد"، شرق بلا ملامح، وبلا هوية لسكانه، سوى إثنيات وأعراق وطوائف ومذاهب تنبش في التاريخ بحثاً عن جذور فتنة، تكفي أعداء الأمة عبء القتل والتدمير. وقد بات عجيباً أن نجد في الأمة من يخاف من المقاومة العربية والإسلامية، ويطمئن إلى العدو الإسرائيلي الصهيوني. ولئن كان أخطر ما يواجه الدعوة إلى استعادة المشروع القومي، هو ما نجح فيه أعداؤنا من تشويه لصورة العروبة، فإن الجهد الذي ينبغي أن يبذل هو مكافحة هذا التشويه، وتقوية اعتزاز الأجيال الشابة بانتمائها للعروبة، وربطها بلغتها الأم، وما تعنيه هذه اللغة من ثقافة وقيم وأسلوب تفكير، وحرص على كون العروبة فضاء فكرياً لكل الأعراق والأديان وليست نسَباً عرقياً. فهي ثقافة وانتماء حضاري، وهي فوق ذلك كله، متلازمة مع الإسلام، فالعروبة هي الحامل التاريخي للإسلام، والإسلام هو الحاضن الحضاري للعروبة. والعوْربة هي السبيل الوحيد لمواجهة العولمة، ولابد من إنهاء الفصام بين المشروعين الإسلامي والقومي، لأن أحدهما يكمل الآخر، ولا يتم ذلك إلا بإنهاء حالة اختطاف الفكر العربي كله، عبر ما أرجو أن يتم على صعيد عربي كبير من مراجعة فكرية شاملة.