منذ خمسة وعشرين قرناً، كتب اليوناني "يوروبيدس"، بطريقته المأساوية العميقة: "لا يوجد حزن على هذه الأرض أكبر من حزن الذي يخسر وطنه الأصلي". هل كان هذا العبقري يكتب عنوان مأساة الملايين من العرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين؟ مع أن القرن العشرين قد وُصف في كتب علم الاجتماع بأنه كان قرن اللاجئين، إلا أن اللجوء والهجرة بقيا صفتين ملازمتين بامتياز لعرب القرنين الماضي والحاضر. تعال إلى مدن أوروبا، كبيرها وصغيرها، وجلْ بنظرك، فسيرجع النظر إليك ساخطاً وهو حزين. اللاجئون والمهاجرون الهاربون من بلاد العرب يملؤون الباصات المتكدّسة والأسواق الفقيرة والشقق القديمة المتهالكة... إلاً من رحم ربي... فما الذي دفع بهذه الملايين لتعيش بين أناس لا تعرف لغتهم إلا بالكاد، ولا تستطيع التعايش بسعادة وراحة نفسية مع مكونات ثقافتهم، ولا تشعر أنها تسبح مع السابحين في عنفوان نهر حياتهم المتدفّق؟ أي إنسان يريد أن يعيش على هامش اقتصاد وعمل وثقافة وفرح وأحزان المكان الذي يعيش فيه، لولا أنه مرغم على ذلك؟ ثم أيُّ تمزق داخلي يعيشه الإنسان عندما يعرف أن لجوءه أو هجرته لم يتما بإرادة منه ولا بسبب من أخطاء ارتكبها ولا بسبب أحداث مجتمعية كانت له يد في حدوثها، وإنما كانت بسبب الآخرين؟! إن القوانين والمعاهدات الدولية بشأن اللاجئين تعرّف اللاجئ بأنه الفرد الذي يترك أرضه بسبب الاضطهاد أو الخوف من الاضطهاد وذلك بسبب التمييز العرقي أو الديني أو الجنسي أو السياسي. وبالطبع لا ينطبق هذا التعريف على المهاجر الذي يترك بلده لأسباب شخصية. لكن بالنسبة للعرب، فإن التمييز بين الحالتين أصبح مستحيلاً، إذ أن الذين يصبحون لاجئين والذين يضطرون لمواجهة مرارة الهجرة يفعلون ذلك لنفس الأسباب، وهي أسباب مجتمعية بحتة. فالمجتمعات العربية هي أكثر المجتمعات اضطراباً وتمزقاً وصراعاً مقيتاً في السياسة، وهي من أكثر المجتمعات نهباً للثروة العامة واستقطاباً بين الغنى والفقر، وهي أكثر المجتمعات تعرضاً للتجاذبات والأطماع الدولية، وهي من أكثر المجتمعات ابتعاداً عن التضامن والتوحُّد. فإذا أضيف إلى ذلك أن حكْمَ الشعب بالشعب ومن أجل الشعب، منعدم في غالبيتها، تصبح قابلية هذه المجتمعات للانفجارات والحروب الداخلية والاستعمار والفوضى الاقتصادية وقلة الإنتاج... مهيمنة على الحاضر وربما المستقبل. إن نظرة واحدة على الإحصائيات تؤكد هذا المنظر العربي المقلق. فقد بلغ عدد لاجئي العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بكل أهوالها واتساع رقعتها، حوالي 11 مليوناً. ووصل الرقم إلى سبعة وعشرين مليوناً منذ حوالي خمس سنوات ثم هبط إلى أدنى. فما هي نسبة العرب بين هؤلاء؟ إن عدد اللاجئين والمهاجرين في الخارج والداخل من العراق وحده يصل إلى سبعة ملايين شخص. فإذا أضيف إلى ذلك ملايين اللاجئين الفلسطينيين والصوماليين والسودانيين، وأضيف إلى هؤلاء ملايين المهاجرين من أقطار البلاد العربية الكبرى، مشرقها ومغربها، فالنتيجة هي أن غالبية اللاجئين والمهاجرين في العالم اليوم هم من العرب. المفجع في الأمر أن غالبية اللاجئين والمهاجرين العرب المتواجدين في خارج أرض العرب يمكن استيعابهم في أقطار اليسر والاستقرار، لكن ذلك لم يحدث. وبدلاً من الترحيب بهم، يتم الترحيب بالعمالة الأجنبية، وفي الآونة الأخيرة بالمستوطنين المقيمين من الأجانب! والمفجع أيضاً أن الذين يتركون أوطانهم غالباً ما كانت بينهم أعداد كبيرة من العلماء والفنيين والمهنيين، بينما لا يبقى تحت حكم البلادة والتسلط إلا العناصر غير المنتجة أو الانتهازية أو المغلوبة على أمرها. كان أبطال قصص شكسبير المأساوية يفزعون من الذهاب إلى الفراش خوفاً من أن تلاحقهم أثناء النوم كوابيس جرائمهم. ترى هل يستطيع المسؤولون العرب أن يناموا بعيون قريرة؟ ألا تلاحقهم أشباح ملايين العرب من الهائمين على وجوههم في كل أصقاع العالم؟!