كثيرة هي الأسباب التي توجب الدعوة إلى وقفة مصارحة مع الإدارة الأميركية في لحظة تبدو فيها منطقتنا كما لو أنها على حافة بركان. وأكثر ما يستحق أن يحظى بأولوية في هذه المصارحة هو الأخطاء المتوالية الناجمة عن سياسة عمياء تضيف كل يوم إلى رصيد خصومها أو أعدائها، وتُضعف بالتالي من تعتبرهم أصدقاءها، ولا تكف عن تصنيف الأطراف المختلفة في المنطقة إلى أعداء لها وأصدقاء. فهذا التصنيف، ابتداء، هو خطأ كبير رغم أن الانقسام في المنطقة بين معتدلين ومتشددين هو حقيقة موضوعية. غير أن تعريف المعتدلين باعتبارهم أصدقاء أميركا يؤذيهم ويسحب من رصيدهم في "الشارع العربي" الذي تسوده نزعات معادية لسياسة الولايات المتحدة عموماً، وسياسة إدارتها الحالية خصوصاً. ولذلك فأكثر من يصح أن يقف مع الولايات المتحدة وقفة مصارحة هي الدول العربية التي تتحدث عنها وزيرة الخارجية الأميركية في كل مناسبة، وأحياناً بلا مناسبة، باعتبارها معسكراً متحالفاً معها، وهي الدول التي يطلق عليها الآن (6+2). هذا الخطاب الأميركي يلحق ضرراً بالغاً بقوى الاعتدال في المنطقة، ويدعم قوى التشدد من حيث لا يقصد. والأرجح أن يزداد أثر هذا في الفترة المقبلة، إذا تخلى الأميركيون عن حذرهم المعتاد من إدخال إسرائيل طرفاً في أزمات المنطقة التي لا صلة لها بتداعيات الصراع العربي-الإسرائيلي. فلم يكن هذا الحذر حاضراً في خطاب وزيرة الخارجية الأميركية قبيل وخلال اجتماعها الأخير مع وزراء خارجية (6+2) في شرم الشيخ في 30 يوليو الماضي، حين تحدثت عن مساعدات عسكرية شملت إسرائيل إلى جانب بعض هذه الدول، في سياق ما أسمته "الالتزام بأمن شركائنا الاستراتيجيين في الشرق الأوسط"، رغم عدم وجود ما يبرر وضع شركاء تتفاوت الشراكة معهم مثلما تتنوع مبرراتها في سياق واحد. صحيح أن لدول (6+2) مصالح تجمعها مع الولايات المتحدة بالفعل، ولكن لديها أيضاً خلافات معها لا يمكن اعتبارها صغيرة أو محدودة. وتشمل هذه الخلافات القضايا الساخنة والمشتعلة جميعها بدرجات متفاوتة، بدءاً من قضية فلسطين، وصولاً إلى الملف النووي الإيراني، مروراً بالأزمة العراقية. وهذا ما يصح شرحه أيضاً للشعوب العربية بتفصيل ووضوح. فهذه الشعوب تتعرض لدعاية كثيفة الآن تهدف إلى الإيحاء بأن العلاقة القائمة في إطار (1+6+2) أي بين أميركا ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن، تمثل تحالفاً يخدم مشروع إدارة بوش ويسعى إلى إنقاذها من ورطتها الكبرى في العراق ويقدم الدعم لها على كل صعيد. ومن شأن هذا الانطباع الذي يزداد، أن يضيف المزيد إلى رصيد قوى "الإسلام السياسي" الذي كان لأخطاء السياسة الأميركية الدور الأهم في بنائه والإضافة إليه بشكل متواتر على مدى عدة عقود. وقد أصبح هناك اتفاق واسع الآن على أن المستفيد الأول من أخطاء السياسة الأميركية العمياء في الشرق الأوسط، هم الإسلاميون بمختلف أطيافهم المعتدلة والمتشددة. كانت هذه السياسة عمياء منذ أن انحازت بشكل مطلق إلى إسرائيل في منتصف ستينات القرن الماضي. فالهزيمة العربية المهينة عام 1967، أضعفت الحركة القومية العربية واليسار، وفتحت الباب أمام الأسلمة السياسية. وكان في إمكان حرب 1973 أن تضع حداً لتنامي هذه الأسلمة، لكن انسداد الطريق أمام تسوية شاملة معقولة، بعد تلك الحرب، أدخل المنطقة في حالة ارتباك، وكشف هشاشة نظم الحكم التي حملت على عاتقها حل قضية فلسطين والتزمت بذلك أمام شعوبها. استغلت هذه النظم قضية الشعب الفلسطيني العادلة لتحقيق شعبية في بلادها، أو لإسكات شعوبها تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ونجحت في ذلك، أو على الأقل بعضها، في البداية قبل أن يحدث ما يشبه "انقلاب السحر على الساحر" في النهاية. صارت قضية فلسطين عبئاً على بعض نظم الحكم العربية بعد أن كانت رصيداً لها وعوناً. وتجلى هذا العبء في مظاهر شتى من أهمها أن الإحباطات الشعبية التي ولدها العجز عن حل قضية فلسطين، تحول قسم كبير منها رصيداً لمعارضي نظم الحكم. وحصل الإسلاميون المسيسون على القسم الأعظم من هذا الرصيد في البلاد التي أصبحوا هم قوة المعارضة الرئيسية فيها. وعلى هذا النحو كان للسياسة الأميركية التي دعمت إسرائيل دور رئيسي في إضعاف النظم العربية التي أصابها الوهن من جراء هزيمة 1967 ثم العجز عن استثمار نتائج حرب 1973. ويعني ذلك دوراً أميركياً غير مباشر في بدء تنامي الإسلام السياسي في العالم العربي وبالتزامن تقريباً مع انتصار آيات الله في إيران، الأمر الذي خلق مناخاً عاماً مواتياً لتنامي الأسلمة السياسية والاجتماعية في عموم المنطقة. وخطت السياسة الأميركية خطوتها الثانية الكبيرة في دعم هذا التطور عندما اعتمدت على الإسلاميين في مواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان، وأمدت مجموعات أساسية منهم بالأموال والأسلحة والتدريب لتحويل الحرب على السوفييت إلى حرب مقدسة. وقصة ما بعد أفغانستان والعائدين منها إلى بلادهم حاملين راية "الجهاد" منتشين بالانتصار على "الشيطان السوفييتي"، معروفة للجميع تقريباً. لكن الأهم منها هو أن حرب أفغانستان التي رُفعت فيها الراية الدينية، خلقت قوة دفع جديدة هائلة لنزعة الأسلمة السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط. فالمناخ العام الذي أشاعته تلك الحرب كان له الأثر الأكبر في انتشار هذه النزعة وتحول حركات وجماعات إسلامية معتدلة إلى قوة متنامية صارت تمثل المعارضة الرئيسية في معظم بلاد المنطقة. وهكذا حصد الإسلاميون، المعتدلون والمتطرفون على حد سواء، الثمار المرة للسياسة الأميركية العمياء التي اشتد عماها بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 فازداد تخبطها وتكاثرت أخطاؤها وفقدت توازنها. وأصبح في إمكان الإسلاميين من كل لون أن يقطفوا ثمار هذا كله دون أن يحتاجوا إلى بذل كثير من الجهد. ورغم أن الحصيلة وفيرة، فضلاً عن أنها تبدو لا نهائية، فهم لا يترددون في الاستزادة لدى وجود أية فرصة حتى إذا كان الثمن فادحاً على بلادهم اليوم، وربما عليهم غداً. وما حدث في قطاع غزة هو أحد الشواهد، وليس آخرها، على ذلك. فقد وجدت المجموعة المهيمنة على حركة "حماس" الفرصة سانحة لخطف القطاع. وما كانت الفرصة تسنح لها على هذا النحو إلا لأن تحالفاً يضم مجموعة رئيسية في "فتح" ومعظم الأجهزة الأمنية، راهن على السياسة الأميركية العمياء، وبشكل مفضوح. وكان هذا دافعاً وذريعة في آن معاً، للمجموعة الحمساوية المتطرفة للتعجيل بضرب التحالف الفتحاوي-الأمني في القطاع والسيطرة عليه عسكرياً. فالسياسة الأميركية العمياء التي تتخبط في مسارها تعطي انطباعاً لبعض من يراهنون عليها بأن الطريق مفتوح أمامهم في الصراع ضد خصومهم. وقد ذهب التحالف الذي قاده محمد دحلان في قطاع غزة ضحية هذا النوع من الانطباعات. ونخشى أن يكون هذا هو مصير تحالف "14 آذار" في لبنان أيضاً، إذا انفجرت حرب أهلية جديدة لم يعد استبعادها ممكناً. فالإسلاميون العرب المعتدلون، وليس فقط المتشددين، جاهزون للغزوات الكبرى في أكثر من موقع لحصد مزيد من المكاسب بأي ثمن، اعتقاداً بأن المنطقة ستدين لهم حين تفشل أميركا في إخضاع إيران سلماً أو حرباً. وبينهم من يؤمن بأن ضربة عسكرية ضد إيران هي آخر ما في جعبة الأميركيين، وأنها لن تحقق أهدافها مثلما فشل الاعتداء الإسرائيلي على لبنان قبل عام، وأن إيران ستخرج منتصرة بالمنطق المستخدم في تقويم نتائج حرب الصيف الماضي، والذي جعل "حزب الله" فائزاً بما يطلق عليه "النصر الإلهي"، وأن الانتصار سيكون في النهاية للإسلاميين. وإذا لم تعدل واشنطن عن خطابها السطحي الذي يصور دول (6+2) كما لو أنها تابعة لها على نحو يضعفها في مواجهة قوى الإسلام السياسي، المعتدلة والمتطرفة في آن، فهي تقدم بذلك مساهمة كبرى لدعم هذه القوى ربما تفوق كل ما حصدته نتيجة الأخطاء الأميركية. وفي هذه الحالة، قد يأتي وقت يسجل فيه التاريخ أن السياسة التي استهدفت بناء "شرق أوسط كبير" أو "شرق أوسط جديد"، انتهت إلى دعم القوى التي تسعى إلى "شرق أوسط إسلامي"!