جيمس ماك ويليامز وجد مصطلح "الأميال الغذائية" الذي يعني عدد الأميال التي قطعتها المواد الغذائية قبل أن تستقر على موائدنا، طريقه إلى المعاجم المختلفة. وقد تبلور هذا المصطلح ووجد طريقه للمعاجم نتيجة الضغط المستمر الذي مارسته الجماعات البيئية خصوصاً في أوروبا، وإصرارها على أن تتضمن الملصقات الغذائية بيانات عن المسافات التي قطعتها مكونات الأطعمة المختلفة حتى تصل إلى الأسواق. وقد صدرت بعض الكتب التي تتناول هذا الموضوع ومنها كتاب "باربرا كنجزلوفر" المعنون "الحيوان والنبات والمعجزة: عام من عمر الطعام"، والذي يتناول الضرر الذي تلحقه عمليات النقل، سواء عبر الشاحنات أو السفن أو الطائرات، بالمواد الغذائية التي يتم استيرادها من مناطق أخرى في أنحاء المعمورة. هناك أسباب عديدة تدعو إلى تشجيع تناول الأطعمة المحلية؛ منها طزاجة تلك الأطعمة، ونقاوتها، وطعمها، وما يمثله الإقدام على تناولها من تشجيع للعمالة الزراعية المحلية، والمساهمة في تماسك المجتمع ورخائه. لكن أيا من تلك الأسباب لا يمكن مقارنته بالسبب الذي ركزت عليه الجماعات البيئية كثيراً، وهو أن تناول الأطعمة المحلية يقلل من استهلاك أنواع الوقود الأحفوري. وليس من الصعوبة بمكان التوصل إلى الصلة بين تخفيض عدد الأميال التي تقطعها المواد الغذائية باستخدام وسائل النقل المختلفة، وبين تقليل الانبعاثات الغازية. فإذا ما عرفنا أن الجزر الذي يتناوله سكان ولاية "أيوا" يأتي من كاليفورنيا الواقعة على بعد 1600 ميل، وأن البطاطس التي يتناولونها تأتي من" إيداهو" التي تبعد 1200 ميل، وأن شرائح اللحم المحمر تأتي من أبقار تتم تربيتها في "كلورادو" على بعد 600 ميل, وأن 75% من التفاح الذي يباع في مدينة نيويورك يأتي من الساحل الغربي أو من الخارج رغم أن الولاية تنتج كميات من التفاح تزيد عن احتياجات سكان المدينة... فإننا سندرك جانباً من تلك المشكلة التي يرى المؤلف "بيل ماكيبين" أن الحل الوحيد لها هو أن يعمل المستهلكون على حساب عدد الأميال التي تقطعها المواد الغذائية حتى وصولها إليهم، كما يحسبون عدد السعرات الحرارية التي تتضمنها أنواع الأطعمة التي يتناولونها. ولكن هل إنقاص عدد الأميال التي يقطعها الطعام، حتى يصل إلى المستهلكين، أمر جيد بالضرورة للبيئة؟ في محاولة لتقديم إجابة على هذا السؤال، قام الباحثون في جامعة "لينكولن" في نيوزيلاندا، متأثرين في ذلك من دون شك بالحملة التي تشنها الجماعات البيئية في أوروبا، بإجراء دراسة لاختبار الفرضية التي تقول إنه كلما قطعت المواد الغذائية أميالاً أكثر حتى تصل إلى المستهلك، أدى ذلك إلى زيادة استهلاك أنواع الوقود الأحفوري. ولم يقتصر الأمر على هذه المجموعة من الباحثين، حيث وجدنا مجموعات أخرى تقوم بإجراء بحوث ودراسات مماثلة لتحدى هذه الفرضية، وتتوصل بدورها إلى أن هناك عوامل أخرى تساهم في زيادة استهلاك أنواع الوقود الأحفوري؛ منها استخدام المياه، والتقنيات المستخدمة في الحصاد، وأنواع السماد، وتطبيقات الطاقة المتجددة، ووسائل النقل المستخدمة (نوع الوقود الذي تستخدمه)، وكمية ثاني أوكسيد الكربون التي يتم امتصاصها خلال عملية التمثيل الضوئي، وخلال التخلص من العبوات، وإجراءات التخزين المتبعة، بالإضافة إلى عشرات العوامل الأخرى التي تتعلق بمدخلات الزراعة. وعند قيام العلماء بإدخال تلك العوامل في تقديراتهم، توصلوا إلى نتائج مدهشة؛ إذ كان من أبرز اكتشافاتهم مثلاً أن الخراف التي تتم تربيتها في مراعي نيوزيلاندا الخصبة، والتي تقطع 11 ألف ميل بالسفن حتى تصل إلى الموانئ البريطانية تنتج 1520 رطلاً من ثاني أوكسيد الكربون في الطن الواحد، في حين أن الخراف البريطانية، أي تلك التي تتم تربيتها محلياً، تنتج 6280 رطلاً من ثاني أوكسيد الكربون في الطن. ويرجع السبب في ذلك إلى حقيقة أن المراعي البريطانية أفقر كثيراً من المراعي النيوزيلندية، مما يجبر مربي الماشية البريطانيين على استخدام كميات كبيرة من العلف الحيواني الذي يؤدي إنتاجه إلى زيادة استهلاك أنواع الوقود الأحفوري. ومثل هذه الأدلة العملية جعلت الجماعات البيئية في العالم تعيد النظر في مسألة الأميال الغذائية، أي الأميال التي تقطعها المحاصيل والأغذية المختلفة، والصلة بينها وبين زيادة استهلاك أنواع الوقود الأحفوري بعد أن تبين لها أن الاعتماد على المنتجات المحلية ليس هو الوسيلة المثلى لتخفيض استهلاك تلك النوعية من الوقود، لاسيما إذا كانت المراحل الأخرى في الدورة الزراعية تنتج عنها انبعاثات من ثاني أوكسيد الكربون تفوق تلك التي تنتج أثناء عملية النقل. وقد وجدت جماعات حماية البيئة، والجماعات الداعية إلى تشجيع المنتجات المحلية على حساب المنتجات المستوردة من بلدان بعيدة نفسها مضطرة إلى قبول تلك الحقائق التي أسفرت عنها الدراسات، وأولها أن شراء المنتجات الغذائية المحلية قد لا يكون بالضرورة مفيداً للبيئة، وأن الأمر يستلزم اتخاذ إجراءات أخرى غير التشجيع على إنتاج المواد الغذائية محلياً، ومنها العمل على الدعوة لتطوير وسائل الإنتاج المحلي وإعادة النظر في العملية الزراعية برمتها بحيث يتم تحسين كفاءتها حتى لا تؤدي إلى استهلاك كميات كبيرة من أنواع الوقود الأحفوري، مع العمل في نفس الوقت على زيادة مقدار التعاون والتنسيق بين الجماعات المحلية وبين الجمعيات البيئية المماثلة في مختلف دول العالم، بحيث تعمل هي الأخرى على تقليل الإنبعاثات الغازية، وتقديم المعونة الفنية والتقنية للدول الفقيرة والنامية المنتجة للمحاصيل المختلفة والتي قد لا تتوافر لديها الإمكانيات أو الوعي اللازم لتحقيق هذا الهدف. كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز