أكثر شكاوى المتقاعدين تتركز في قلة الرواتب التي لا تتناسب وارتفاع تكاليف ومتطلبات المعيشة... وبعد أن صارت معنويات بعض المتقاعدين تحت الصفر، من المهم إعادة النظر في نظام التقاعد حتى لا نصل إلى اليوم الذي نسعى فيه إلى إنقاذ بعض المواطنين من "الفقر" في وقت تشهد فيه البلاد طفرات متلاحقة ونمواً كبيراً والحمد لله يستفيد منه الجميع. لذا صار من المهم أن يكون أولئك المتقاعدون جزءاً من "الجميع" الذين يتطورون مع تطور البلاد ويستفيدون من الطفرة التي تمر بها الدولة لا أن يكونوا أول ضحايا هذه الطفرة. على الحكومة أن تولي اهتماماً أكبر بالجيل الأول من المتقاعدين وألا تعتبرهم أناساً انتهت صلاحيتهم حتى لا يزيد عدد الذين يفكرون بالعمل في القطاع الخاص أو ممارسة الأعمال الحرة حتى لا يكونوا من الجيل الثاني من المتقاعدين وحتى لا يكتووا بنار التقاعد وتجاهل الجهات الرسمية والمجتمع لهم في وقت يكونون بأمس الحاجة إلى الجميع. مسؤوليتان لا تعفى منهما الحكومة تجاه أي متقاعد ويجب أن تتأكد منهما قبل إحالة أي موظف إلى التقاعد. المسؤولية الأولى أن تتأكد إن كان المتقاعد يملك بيتاً خاصاً يوفر له ولأسرته الحياة الكريمة، والأمر الآخر أن تتأكد من أن دخله الشهري يكفيه وأسرته، فهؤلاء المتقاعدون خدموا في مختلف قطاعات الدولة وأغلبهم كانوا متفانين في أعمالهم متقنين لواجباتهم لذا فخبرتهم تكون أصيلة وعملية وهناك قطاعات عديدة تحتاجهم... فليس من العيب أو الخطأ أن نستفيد من خبرات هؤلاء، فكما يقولون إن "أعتق الأشجار تعطي أطيب الثمر". ذلك ما يجعلنا نؤكد على أهمية التفكير في إيجاد مؤسسة للمتقاعدين -ليس ناديا ولا منتدى ولا جمعية- وإنما جهة رسمية تكون المكان الذي يرجع إليه المتقاعد لتسهيل أمور حياته وقضاء احتياجاته المتعثرة كما يكون دورها العمل على الاستفادة من جيل المتقاعدين الذين يمتلكون خبرات جيدة في مجال أعمالهم وتخصصاتهم. ومن المهم جداً أن يتم إعداد قاعدة بيانات مركزية لجميع المتقاعدين في الدولة وتصنيف بياناتهم حسب خبرة كل متقاعد... فقد يساعد ذلك على تهيئة الفرص الوظيفية للمتقاعدين الراغبين في العمل، سواء بأجر أو من خلال العمل الخيري التطوعي وشغل أوقات فراغهم بشيء يفيدهم ويفيد المجتمع، فمن غير المعقول أن يتم التعامل مع هؤلاء على أنهم أشخاص انتهت صلاحيتهم فالأوراق الذابلة لا تشوه الأشجار الجميلة. وفضلاً عن الآثار النفسية للتقاعد، فإن الآثار المادية والخسارة المالية التي تلحق بالمتقاعد تعتبر الأشد والأقسى خصوصاً في ظل الغلاء الذي نعيشه والذي لا يُبقي من راتبه الشهري إلا بضعة آلاف بالكاد يسيّر بها أمور عائلته الضرورية وخصوصاً في هذا الوقت... فالأسعار ارتفعت بشكل جنوني وصار التضخم العدو الأول لكل مستهلك سواء أكان مواطناً أو وافداً... والملفت أن كل شيء يزيد ويرتفع سعره وقيمته إلا رواتب المتقاعدين، فإنها تبقى كما هي بل تقل قيمتها خصوصاً مع انخفاض قيمة الدولار وتراجعه المتلاحق. وهذا ما يستدعي أن تنظر الحكومة في وضع المتقاعدين ورواتبهم الضعيفة، خاصة أن كثيرين منهم لا يملكون مصدر دخل غير معاشهم التقاعدي الذي يفترض أن يتحسن بارتفاع مستوى المعيشة... أو أن تفكر الحكومة في طرق بديلة لزيادة دخل المتقاعدين السنوي مما يساعدهم على مجاراة الغلاء في كل قطاعات الحياة. واضح في مجتمعاتنا العربية أن فترة التقاعد تعتبر "فترة خسارة" على جميع الأصعدة وأولها الخسارة المادية، حيث ينقص دخل المتقاعد السنوي مقارنة بدخله أثناء العمل... الخسارة الأخرى هي فقدانه للنفوذ، فبعد التقاعد لا يسأل عنه أحد ولا يهتم به أحد... وخسارة خبرات متراكمة... بالإضافة إلى الخسارة الصحية التي يعاني منها المتقاعد، فبعد جلوسه في البيت تبدأ تظهر عليه أعراض الشيخوخة والأمراض المختلفة... وخسارة الأعصاب فهو بالكاد يسيطر على أعصابه نتيجة شعوره بفقدان الأمل... وكذلك الخسارة الأسرية، فبعض المتقاعدين يجلسون في البيوت ويتدخلون في كل كبيرة وصغيرة نتيجة لوقت الفراغ الذي يعانون منه وبالتالي يقلبون البيت رأساً على عقب ويخربون كل نظام فيه... إلى جانب فئة المتقاعدين الذين تعتبر مشكلتهم الرئيسية "مالية" وهم ممن عاشوا وتقاعدوا على راتبهم فقط دون أن يكون لديهم أي مصدر دخل آخر وصاروا يعيشون على راتبهم شهراً بشهر دون أن يستطيعوا ادخار شيء أو حتى يمتعوا أنفسهم ببعض كماليات الحياة... إلى جانب هذه الفئة هناك فئة أخرى مشكلتها نفسية فقط ولا تقل أهمية عن مشكلة الفئة الأولى فالمادة متوفرة لديهم ولكن المتقاعد من هؤلاء يبدأ يشعر بفقدان الأمل وعدم الرغبة في الحياة بعد التقاعد بسبب تجاهل المجتمع له وشعوره بأنه أصبح زائداً عن الحاجة وأن عليه أن يبقى في انتظار الموت. في الماضي القريب لم يكن الرجال يتقاعدون عن العمل إلا بسبب العجز أو الموت... ومع ظهور المجتمعات الصناعية والمعلوماتية الحديثة صار من الضروري أن يتم تطبيق التقاعد لخلق شكل من التوازن في المجتمعات وحتى يحصل جيل الشباب على فرصته في الوظائف العامة أو الخاصة... فالتقاعد من العمل هو إحدى مشكلات الحضارة الحديثة... وهو يعني التوقف عن العمل بالنسبة لمن يشغلون وظائف أو يقومون بأعمال رسمية عندما يبلغون سناً محددة أو وضعا معينا... وفي هذا الوضع الجديد لم يعد أمام الموظف إلا أن يتقبل الواقع وان كان سيتخلى عن نفوذه وسيتغير وضعه الاجتماعي تماماً. وهذا ما يؤكد على أننا بحاجة إلى أن ننشر "ثقافة التقاعد" حتى يهيئ كل موظف نفسه لليوم الذي سيتقاعد فيه وأن يعتبر هذا اليوم بداية فترة راحة من العمل الرسمي وبداية حياة هادئة وسعيدة يتفرغ فيها لممارسة مهنة يتقنها أو هواية يعشقها أو حتى يتفرغ لأبنائه وأحفاده... هذه ثقافة جديدة على المجتمع، لأن مسألة التقاعد أصلاً جديدة، والمتقاعدون الحاليون يعتَبرون من الجيل الأول من المتقاعدين في الإمارات ونحن بحاجة إلى أن نضع بروتوكولات تساعد المتقاعد على إكمال حياته من خلالها براحة وتفاؤل وعطاء مستمر. في الولايات المتحدة الأميركية يلقب كل من يصل إلى هذه المرحلة بـ"المواطن الأول (Senior Citizen) كنوع من التقدير والترضية النفسية... وهذا الجيل من الرجال والنساء الذين كانوا طليعة العاملين في المؤسسات والوزارات الحكومية، وخصوصا أولئك الذي أفنوا حياتهم وتفرغوا تماماً للعمل الحكومي، سواء الاتحادي أو المحلي ولم يمارسوا الأعمال الخاصة و"البيزنس" إلى جانب العمل العام، يستحقون أن ينالوا لقب المواطن الأول تقديراً لجهودهم... وبالتالي يجب أن يحصلوا على بعض الامتيازات والتسهيلات التي تشعرهم بقيمتهم وبأن عطاءهم صار محل تقدير.