في الوقت الذي نحاول فيه الآن انتشال أنفسنا من المستنقع العراقي، أرى أنه من المفيد أن نتأمل الكيفية التي تعاطى بها الاتحاد السوفييتي السابق مع وضعٍ مشابه في عقد الثمانينات، على أن نقوم بعكس ما قام به. فقد غزى السوفييت أفغانستان في 1979 بناء على فشل استخباري شبيه بفشلنا الاستخباري في العراق؛ حيث كانوا يعتقدون أن "دُميتهم" التي لم تتصرف على نحو لائق في كابول، كانت على وشك تغيير ولائها من الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة. وبحلول 1986، كان السوفييت يرغبون في إنهاء الحرب في أفغانستان، فجرَّبوا بعضاً من المقاربات التي نجرِّبها ونتحدث عنها اليوم من قبيل: دستور جديد، وزعيم جديد، وسياسة "مصالحة وطنية"؛ حيث كانت هذه الأمور تخدم مصلحتهم هناك، مثلما تخدم مصلحتَنا اليوم في العراق. كان الكثير من المسؤولين السوفييت لا يرغبون في شيء سوى الحد من خسائرهم والانسحاب؛ غير أن مسؤولين آخرين كانوا يعارضون ذلك، مشيرين إلى حجج مضادة قد تبدو مألوفة لدينا الآن، من قبيل: إذا اخترنا الانسحاب، فإننا سنضر بنفوذنا وتأثيرنا في العالم لجيل من الزمن. وإذا غادرنا، فإن البلاد ستنهار، وستراق دماء كثيرة، ولاسيما دماء أصدقائنا؛ وسيصل المتطرفون الإسلاميون إلى السلطة؛ وبالتالي، فأن نحاربهم اليوم هناك أفضل من أن نحاربهم غداً داخل حدودنا. والواقع أن كل هذه الحجج كانت منطقية وسليمة، وفيها شيء من الحقيقة؛ فبعد أن انسحب السوفييت من أفغانستان في الأخير بعد تسع سنوات هناك، وأنهوْا ما كانت تسميه صحيفة "إيزفيستيا" السوفيتية "الجُرح الذي لن يلتئم"، انزلقت أفغانستان بالفعل في نهاية المطاف إلى حرب أهلية كانت أسوأ بكثير مما سبقها. غير أنه بنظرة تأمل إلى الماضي، يغدو من الواضح تماماً أن السوفييت والأفغان كانوا سيكونون أفضل حالاً بكثير لو أن الاتحاد السوفييتي انسحب مبكراً. ذلك أن تمديد وجود السوفييت هناك لم يكن سوى تأخير لأمر لابد من وقوعه؛ حيث زاد من إصاباتهم، وقوَّى أعداءهم. والواقع أن لنا في هذا المثال درساً ينبغي أن نستخلصه ونستوعبه في العراق اليوم. مما لاشك فيه أن الجنرال "ديفيد بتراوس" يُبلي بلاءً حسناً في العراق، غير أن الزيادة في عديد القوات الأميركية هناك لا ترمي إلى جعل شوارع العراق أكثر أمناً وسلامة، وإنما الهدف منها هو خلق مجال سياسي مناسب لحدوث المصالحة. ومن هذه الناحية، يمكن القول إن أهداف زيادة القوات مُنيت بالفشل. بل حتى داخل إدارة بوش، يبدو أن الجميع اليوم بات يقر بأن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عاجز عن تحقيق المصالحة. ولذلك، فهناك حديث عن التفكير في شخصية تحل محل المالكي -غير أننا جربنا ذلك في فيتنام في 1963، كما جرب السوفييت ذلك في أفغانستان في 1986؛ ولم ينجح التدبير في أي منهما. وعليه، ففي غياب أمل واقعي في تحقيق المصالحة، لنتجنب التلكؤ الذي أظهره السوفييت في الثمانينات، ولنقبل الحقيقة المُرة مثلما فعل ميخائيل غورباتشوف في 1987، ونعلن أننا في طريقنا إلى الخروج. على أن ثمة حجة قوية للاحتفاظ بكتيبة في كردستان -فالأكراد يرغبون في بقائنا، كما أن من شأن حضورنا أن يقلص خطر اندلاع حرب بين الأكراد والأتراك. علاوة على ذلك، فإنه يمكننا أن ننتزع من الأكراد، مقابل بقائنا، تنازلات من شأنها أن تقلِّص خطر اندلاع الحرب في كركوك. فكردستان تعد اليوم المنطقة الوحيدة في العراق التي مازالت تبعث على الأمل؛ ولذلك، فإن علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لإبقاء ذلك الأمل قائماً وقابلاً للحياة. ويجادل بعض الخبراء بضرورة الاحتفاظ بقواعد عسكرية في غرب العراق أو جنوبه أيضاً؛ والحال أنه ما لم يطلب السكان المحليون منا البقاء، فإن وجودنا هناك لن يؤدي في الغالب إلا إلى تقوية مقتدى الصدر وتحويله إلى أقوى سياسي في العراق. ثم بدلاً من إنفاق المليارات في هذه الأماكن، حريٌّ بنا أن نبذل جهداً أكبر من أجل مساعدة الأردن -الذي تأثر كثيراً بسبب تدفق العراقيين عليه. إذ يجدر بنا، لأسباب إنسانية واستراتيجية معاً، أن نحرص على أن يتلقى الأطفال العراقيون التعليم، وألا تسوء أحوال الأردن في الوقت نفسه. وثمة حديث كثير اليوم حول تقسيم العراق بغية الحد من العنف، بل إنه بدأ منذ بعض الوقت -والواقع أن هذا التقسيم يعد خطوة مطروحة للتقليل من خطر حدوث إبادة جماعية بعد رحيلنا. ولكن أن تتبنى الولايات المتحدة فكرة التقسيم فهذا أمر كارثي وخطير؛ إذ من شأن ذلك أن يقدمنا في المدارس الدينية عبر العالم باعتبارنا الكفار الذين فككوا بلداً عربياً من أجل الاستحواذ على نفطه وإضعافه نيابة عن إسرائيل. ومن الخطوات المهمة التي يتعين اتخاذها العمل بشكل وثيق مع جيران العراق، بمن فيهم أولئك الذين لا نحبهم، مثل إيران وسوريا. فمصلحة هذين البلدين في عراق مستقر لا تقل عن مصلحتنا. علاوة على ذلك، فعندما تتقلد إيران بعض المسؤولية في جنوب العراق، فإنها ستواجه خطر انعدام استقرار نظامها الاستبدادي في الداخل. وعلينا أيضاً أن نستمر في الدفع في اتجاه تحقيق تقدم على صعيد جهود تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين (والسلام بين إسرائيل وسوريا). ذلك أن مجرد محاولة تحقيق السلام في الشرق الأوسط يمكن أن تنعكس إيجاباً على المنطقة برمتها، حتى وإن فشلت هذه الجهود؛ ولذلك، فإنه ينبغي أن يكون هذا الأمر جزءاً من استراتيجيتنا في العراق. وفي نهاية المطاف، من الخيارات المطروحة أمامنا أيضاً الاستمرار في تخصيص 10 مليارات دولار شهرياً وما لا يعد ولا يحصى من الأرواح للعراق، على أمل أن يحالفنا الحظ على نحو ما، أو تخصيص هذه الأموال للرعاية الصحية في الداخل والبرامج الإنسانية عبر العالم -ذلك أن أفضل أمل في إلحاق الهزيمة بـ"الجهاديين" في العالم على المدى البعيد لا يتمثل في إلقاء القنابل، وإنما في بناء المدارس. كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"