يُجمع الكتّاب العرب، بمختلف الأنساق والأجناس الكتابية التي يمثلونها ويُنتجون في حقولها، على أمر أصبح ذا عراقة في القِدم، هو غياب وحدة المصطلحات، التي يستخدمونها بحثاً وإبداعاً. فهنالك اتجاه عام يلتقون في الإقرار به، هو توسُّع الاضطراب في استخداماتهم الاصطلاحية وتعمُّق دائرة الاختلاف بينهم في فهم الدلالات والمعاني والرموز والإشارات للمصطلحات، التي يبنون أبحاثهم ودراساتهم ومقالاتهم وإنتاجاتهم الإبداعية عليها. والحق أن هذه الوضعية لم يُنتبه لها، خصوصاً منذ بواكير النهضة العربية الحديثة مع أواخر القرن الثامن عشر وعلى امتداد القرن التاسع عشر، أي يداً بيد مع تعاظم فاعلية التأثير الفكري الغربي في الفكر العربي. أما البحث في العوامل الكامنة وراء ذلك بحثاً يربط بين الجانب الميداني والجانب النظري فإنه يواجه صعوبة في مؤسسات العمل وأدواته القائمة في معظم البلدان العربية. ومن هنا، فإن أحد أوجه المشكلة المعنية يكمن في مؤسسات ومراكز بحوث تُعلن نفسها مرجعية لما نحن بصدده. ومن ثم، إذا علّق أحد ، شاكياً ما رآه معقّداً أو غامضاً ومجرداً لا يتوافق مع صحيفة يومية أو زاوية أسبوعية، فإن كثيراً من الحق يقف إلى جانبه. في تلك الحال، تبرز الطرفة الشهيرة، التي أوردها طه حسين في أحد أعماله، كما وردت عند آخرين في التراث العربي بمعناها أو بلفظها على النحو الحواري التالي: لِمَ تقول ما لا يُفهم؟ لِمَ لا تفهم ما يُقال؟ وكما يلاحظ، تدخل هذه الحوارية المقتضبة في جدلية مُنتج النص ومُتلقّيه، وهي كذلك (أي الحوارية) تقع في مركز المشكلة، التي نأتي عليها الآن. فإذا كان من أهداف الكتابة الوصول إلى إنتاج جسور مع المتلقّين لإنجاز مهمة التعقّل، وكذلك مهمة التحاور على قاعدة نقدية محفّزة للتغيير والتقدم، فإن ما يصبح مطلوباً آنئذٍ -بحدود أولية- أن تنشأ حالة من الندّية الحوارية بين الكاتب والمتلقي، بما في ذلك على صعيد الصحافة الفكرية. وإذا حاولنا وضع أيدينا على أهم عوامل أو على ما نراه مهماً من عوامل القصور في الإجابة عن المشكلات المعلّقة للمسألة الاصطلاحية في الثقافة العربية عموماً، فإن ما نورده الآن نرى أنه يدخل في صلب هذه المسألة. فلقد كان الإرث الاصطلاحي، الذي تلقّفه باحثو ومثقفو العالم العربي مع أواخر القرن الثامن عشر، موشوماً بعلامات الانقطاع الحضاري أولاً، وبغياب الجسور التي توحّده أو تقرّب بين مكوّناته القطرية ثانياً. ومن طرف آخر، اختلفت البواكير الأولية للمشاريع الثقافية السياسية في مراحل ما بعد الاستقلال، لدى هذا البلد العربي أو ذاك، بحيث وُجدت نتوءات كثيرة في اللغة والفكر العربي (مثل بروز نزعات قومية عربية وغير عربية طالبت باستبدال الأحرف العربية بأحرف لاتينية، والدعوة إلى الهيروغليفية). ويلاحظ أن المشاريع السياثقافية، التي راحت تبرز في بلاد ما بعد الاستقلال الوطني، ما إن أخذت تطرح استحقاقاتها، حتى أتى أخطر حدث في السياسة العربية حتى حينه؛ نعني اشتراط تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر بحلِّ الأحزاب وبإنهاء المجتمع السياسي فيهما، فقد كان ذلك بمثابة تفكيك واحدة من أهم القوى التاريخية للحفاظ على الوحدة المعنية، وتطويرها في إطار مشروع نهضوي. لقد أخذت حالة من الانكفاء التوحيدي الثقافي والسياسي تؤسّس لعصر النظام الأمني العربي ولما أنتجته من خطر على الحريات، وخصوصاً منها السياثقافية؛ مِمّا جعل الأمر يتجه إلى حالة دؤوبة من الانحطاط تحول -مع عوامل أخرى جديدة- إلى حالة مركّزة من الشمول والعمق. وفي هذا السياق، راحت أجيال الاستقلال والنهوض التنويري الجديد تجد مصائرها المأساوية في أخاديد النظام العربي الأمني، خصوصاً في قطريْ الوحدة المنحسرة. وبصيغة معادلةٍ أولية يمكن القول: كلما حدث تقارب أمني بين معظم البلدان العربية، كان يتعمق الانكفاء الثقافي فيها. وقد انعكس ذلك في تركيب ما اعتُبر مجامع لغوية هنا وهناك، وذلك مباشرة على صعيد توحيد المصطلح وتطوير اللغة العربية. وثمة مثال لافت مؤسف، تمثّل في اختراق تلك المجامع بدخول أعضاء فيها بحكم ارتباطهم بأجهزة الأمن وبمصالح أخرى. ها هنا، نضيف النسبة المرعبة من الأمّية الأبجدية والثقافية في العالم العربي، ومعها بروز النظام الأميركي الجديد الدّاعي إلى تنميط العالم لغوياً عبر الإنجليزية. إن تطوير المصطلح العربي عبْر توحيده وكذلك تبسيطه إنما هو استحقاق النهوض العربي الجديد.