سواء أطلقنا على الوجود الأميركي في العراق مسمى التحرير من نظام صدام الديكتاتوري، أو مسمى الاحتلال، فإنه مما لاشك فيه أن العراق اليوم يمثل ورطة أو حالة كارثة للعالم أجمع، وليس للعالم العربي فقط. ذلك أنه تم إنقاذه من نظام صدام دون توفير البديل الحضاري, بما يذكرنا باجتياح قبائل الهون والوندال البرابرة للحضارة الرومانية بعد أن تفتتت من الداخل بفعل التوتر الاجتماعي والخراب السياسي، حين أصبح عرش الإمبراطور لمن يدفع أكثر, وذلك في بدايات القرن الخامس الميلادي. ومن سُنن التاريخ الإنساني أن أي غزو لا يوفر بديلاً حضارياً للنظام الذي سقط، سيؤدي إلى خلق فترة طويلة من الانهيار الحضاري إلى حين توفير البديل. والعراق اليوم يعيش هذه المِحنة، ذلك أن الأميركيين اعتقدوا أن بلداً بتاريخ حضاري مثل العراق، لابد وأن يعتبر الفترة الزمنية لصدام حسين مجرد استثناء في خضم تاريخ يمتد لآلاف السنين بالنسبة للعراقيين، وأنه من السهل العودة إلى الجذور الثقافية الحضارية للشعب العراقي. ولكن حدث ما لم يحسب العالم حسابه, وهو أن نظام صدام قد تمكن من خلق روح عراقية مهانة تمكن من خلالها من تخطي التاريخ الحضاري للعراق، وللثقافة العراقية التي تتجاوز الثقافة العربية ذاتها من حيث قوة الفعل والتأثير. فالعراق بلد متنوع وثرٌّ في تنظيماته الحياتية، لكن "جمهورية الخوف" التي صنعها صدام كانت لها الغلبة على التاريخ. من جهة أخرى، جاء تحرير أو احتلال العراق في زمن لم تعد هناك قيمة حضارية للأمة العربية، فكانت الأمة العربية تعيش فراغاً حضارياً، قام التيار الديني للأسف بتقديم ذاته كبديل، لكنه أيضاً لم ينجح، ولكن هذا البديل الفاشل ظل يمثل الروح الخالية لأمة عاجزة عن التطور الحضاري، الأمر الذي وفر فرصة تاريخية نادرة للفكر الديني للسيادة الشعبية، في حين أن العراق ظل سنين طويلة بعيداً عن الفكر الديني، لأنه لم يكن محتاجاً إليه في تكوينه الحضاري المتنوع. ولكن في ظل الاحتلال الأميركي متلازماً مع التحرك الأميركي ضد العالم كله وفقاً لمبدأ "إن لم تكن معي، فأنت ضدي"، بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001, لم يكن أمام العراقيين المعارضين لهذا الاحتلال سوى اللجوء للفكر الديني الأكثر فعالية لمثل هذه المواجهة، خاصة مع وجود أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة"، الذي حث "المجاهدين" على التوجه للعراق لمحاربة الأميركيين. وهذا بدوره ساعد على خروج الإرهابيين باسم الدين من جحورهم في الدول المحيطة بالعراق كالسعودية والكويت وسوريا والأردن وإيران. واختلط الحابل بالنابل، حتى وجدت الدول العربية نفسها أن السلوك الوحيد للتعامل مع العراق هو بترك العراق لمصيره التاريخي. وكما تعلم اللبنانيون من حربهم الأهلية، سيتعلم العراقيون أيضاً درسهم التاريخي الخاص بهم... ولكن بعد حين. اليوم يعتبر العراق مأزقاً عربياً بامتياز، والكل لا يعرف الحل المنشود للخروج من هذا المأزق. فالعرب بمن فيهم العراقيون لا يريدون خروج الأميركيين، حتى لا يفلت الأمر من أيديهم وتمتد إليهم نار الإرهاب، وإيران مستفيدة من تدهور الوضع العراقي المؤذي لأميركا، والمساعد على تنامي وجودها الشيعي في الجنوب العراقي، وسوريا تلعب بالورقة العراقية في مواجهة أميركا، والكل خائف من انتشار الحرب الأهلية، والعراق يتجه إلى الفكر الديني بدون بوصلة لأن التجربة العربية اليوم مع الجماعات الدينية سيئة للغاية, بعد أن تنمَّرت هذه الجماعات بنجاحها في الانتخابات العامة. لذلك يبقى الحل الأفضل للجميع وهو: ليذهب العراقيون إلى الجحيم ما دام الوضع محصوراً فيما بينهم، ويترك الأمر للزمن حلال المشاكل. ولكن تبقى الحقيقة المؤلمة، وهي أن العراق اليوم بلا حاضر معروف ولا مستقبل واضح، ولا أحد يملك الحل. ولذلك سيظل العراق ورطة أو كارثة للجميع سواء للعرب أو غيرهم.