توم ستانداج .. في عام 1783 زار الزعيم الأميركي "جورج واشنطن" منابع مياه ساراتوجا الطبيعية بولاية نيويورك برفقة "توماس جيفرسون" و"جيمس ماديسون". وأبدى "واشنطن" أثناء تلك الزيارة اهتماماً بالغاً بالمزايا العلاجية للمياه المعدنية التي كانت لا تزال طور البحث في ذلك الوقت. وفي العام التالي، كتب له أحد الأصدقاء خطاباً يصف فيه صعوبة تعبئة هذه المياه التي تحمل نسبة كبيرة من الغازات داخل زجاجات، وكيف أن البعض قد ملأ الزجاجات بالمياه حتى آخرها لدرجة أدت لانكسارها. كان هذا ما كتبه صديق "جورج واشنطن" في ذلك الوقت، وهو ما يبين لنا أن موضوع المياه المعدنية وتعبئتها في زجاجات قد تزامن مع ولادة الولايات المتحدة ذاتها. ولكن مشروعات تعبئة المياه في زجاجات لم تنطلق بشكل عملي حقاً إلا في تسعينات القرن الثامن عشر وفي سويسرا على وجه التحديد، وذلك بعد أن أشاد الأطباء بالمزايا العلاجية للمياه المعدنية التي كان يبيعها "بول وجيكوب شويب" اللذان بدآ في تصدير ماء الصودا المعبأة في زجاجات عام 1800. وسرعان ما اكتسب هذا النوع من المياه شعبية واسعة النطاق في لندن لدرجة أن أستاذ كيمياء أميركي زائراً قرر إنشاء مشروع مماثل بعد عودته إلى الولايات المتحدة. وسرعان ما حذا عدد من الأميركيين حذوه وأنشأوا مشروعات مماثلة، مما جعل المياه المعدنية تحظى بشعبية واسعة كمشروب صحي. ولكن تلك الشعبية لم تبلغ أوجها إلا بعد أن تم البدء في تسويق زجاجات معينة مستوردة من فرنسا في سبعينات القرن الماضي، وبعدها لم تنظر تلك الصناعة إلى الوراء أبداً. ولكن المياه المعدنية بدأت تفقد شعبيتها في السنوات الأخيرة أمام المياه العادية المعبأة في زجاجات، والتي وصلت مبيعاتها في السوق الأميركي العام الماضي إلى 11 مليار دولار، ويقدر حجم مبيعاتها في السوق العالمي بـ100 مليار دولار سنوياً. ولو أن أيّاً منا دخل اليوم مطعماً من المطاعم فسيجد أنواعاً من المياه غير الغازية المعبأة في زجاجات من مختلف دول العالم. ويرجع ذلك لانتشار فكرة من أيام "جورج واشنطن" بأن المياه المستخرجة من مناطق معينة في العالم تحتوي على فوائد علاجية مؤكدة. والفارق الوحيد بين أيام "واشنطن" واليوم أن الذي يحدد هذه الفكرة ومثيلها في عالم اليوم هم كبريات العارضات، ونجوم الروك، ومشاهير الممثلين، وليس أهل السياسة. وتعبئة المياه في زجاجات يجعل البعض يشعر بأنها أكثر نقاءً، أو أنها أطيب مذاقاً، في حين أن الحقيقة هي أنها لا تختلف في كثير أو قليل عن مياه الصنابير في الولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل إن العديد من ماركات المياه المعبأة في زجاجات، ليست سوى مياه صنابير تمت تنقيتها باستخدام فلاتر "مرشحات" وهو ما جعل شركة كبرى من شركات إنتاج المياه المعبأة تقوم بلصق ما يفيد أن هذه المياه مستخرجة من مصادر مياه عمومية. لكن ذلك لا يعني أن المياه المستخرجة من منابع خاصة أفضل في حد ذاتها من المياه المستخرجة من منابع مياه عمومية، علاوة على أن نقل هذه المياه لبلدان بعيدة يمثل ضرراً بيئياً ليس له داع، خصوصاً أن تلك المياه يتم تبريدها في برادات قبل استهلاكها، مما يمثل هدراً للطاقة، علاوة على أن العبوات البلاستيكية التي يتم تعبئة تلك المياه فيها، والتي تصل إلى عشرات الملايين تمثل صعوبة في التخلص منها، وعادة ما ينتهي بها الأمر في مقالب القمامة العمومية. هل المياه المعبأة أكثر نقاء وأماناً في الاستخدام من مياه الصنابير؟ ليس بالضرورة. يرجع ذلك إلى أن الشروط التي يتم فرضها على مياه الصنابير أكثر صرامة بكثير من تلك التي يتم فرضها على مصانع إنتاج المياه المعبأة. صحيح أن مياه الصنابير قد تتعرض أحياناً إلى التلوث، ولكن هذا أيضاً ينطبق على المياه المعبأة. وعلى الرغم من أن شركات إنتاج المياه المعبأة تتباهى بأن تلك المياه صحية، وأنها خالية من السعرات الحرارية، وأنها تمثل بديلاً جيداً للمشروبات التي تحتوي على الصودا والسكر، فإن هذا ينطبق على مياه الصنابير أيضاً. اليوم تبدو المياه المعبأة، وكأنها قد حققت انتصاراً سوقياً حاسماً على المياه الغازية وعلى مياه الصنابير العادية، وهو ما يرجع في المقام الأول إلى استمرار تلك الفكرة التي تقول: إن المياه المعبأة تفوق المياه العادية في الكثير من الخصائص. ولكن هذه الفكرة بدأت تتراجع، بعد أن بدأ الناس يدركون أنها فكرة سخيفة وأبعد ما تكون عن الصواب، وأن المياه المعبأة التي يدفعون نقوداً من أجل شرائها، لا تختلف عن مياه الصنابير التي يتعالون عليها، والتي لا يجد ما يزيد عن مليار من سكان الكرة الأرضية سبيلاً للوصول إليها. هكذا أصبحنا نرى اليوم مطاعم فاخرة تتباهى بإعلان أن المياه التي تقدمها هي مياه صنابير مجانية، لكي تثبت بذلك أنها مساهم إيجابي ونشط في الحفاظ على البيئة. ليس هذا فحسب، بل إننا نجد اليوم أن الكثير من المشاهير قد أصبحوا أكثر استعداداً لأن يطلبوا دون خجل مياه صنابير بدلاً من المياه المعدنية أو المياه المعبأة التي تقدمها لهم عادة المطاعم والفنادق الفاخرة التي يرتادونها. ليس هذا فحسب، بل إن مياه الصنابير العادية في نيويورك قد أعيد منحها علامة تجارية وأصبح يطلق عليها "مياه صنابير نيويورك"، وفي يوم الماء العالمي تقترح المطاعم المشاركة في فعاليات هذا اليوم في نيويورك أن يقوم الزبائن بالتبرع بمبلغ من المال مقابل مياه الصنابير التي تقدمها لهم تلك المطاعم مجاناً على أن تخصص الحصيلة لتمويل مشروعات توفير المياه النقية في الدول النامية. لذلك، عندما يسألك النادل في مطعم من تلك المطاعم ما إذا كنت تريد شرب مياه غازية أو مياه غير غازية ما عليك سوى أن تقول له: إنني أريد أن أشرب ماءً عادياً من الصنبور. كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"