بعد ستين عاماً من الاستقلال، ها هي باكستان لا تُذكَر إلا وكان الحادي عشر من سبتمبر عنواناً للحديث. ففي هذا الوضع المتأزم حملت إسلام أباد لواء مكافحة الإرهاب واستطاعت قَطع الطريق على الهند في استغلال هذه العاصفة التي ألَمَّت بها كورقةٍ للضغط عليها، فكان أن بَعثَت تعاونها مع واشنطن من غبار "تورا بورا" بعد أن "جاهدتا" السوفييت معاً في أفغانستان. غير أن العدو التقليدي لم يكن السببَ الوحيد في موالاة واشنطن، بل إن الموقع الجغرافي والديون الخارجية كانا حاضرين دوماً إلى جانب ما يمثله التداخل بين قبائل باكستان وأفغانستان من أبعاد اجتماعية وعقائدية وعرقية ما تزال ثابتة ثبات الجغرافيا. ولكن الدائرة أخذت تضيقُ حول نظام إسلام أباد في خضمِّ التداعيات المتلاحقة التي فَرضتها الحربُ على الإرهاب بسبب لَعِبها دورَ وكيل واشنطن، مما ألحق ضرراً بالعلاقة بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين، تلك العلاقة البراجماتية التي تقوم على وصول العسكريين إلى السلطة بدعم من التيار الديني مقابلَ إحكام السيطرة وإدارةِ الصراع مع فئات الشعب الراغبين في الديمقراطية المدنية. وإذا كانت واشنطن تقدِّر التحوُّل الكبير في سياسة إسلام أباد نحوها وما واجهه الجنرال مشرّف من ضغوط داخلية أمام التعاطف الشعبي مع ما يحدث في أفغانستان والطلاق بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين الذين يتفقون وأفكار "القاعدة" في الجهاد ومعاداة واشنطن، إلا أن هذه الأخيرة لم تقدِّم شيئاً يُذكر للتخفيف من وطأة الديون، كما أنها لم تعمل على زيادة الصادرات الباكستانية، ناهيك عن الوضع الإقليمي الذي لم يساعد على انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات إليها. غير أن هذه الدائرة ليست محكومة بضغوط الإسلاميين في مسألة تحالف السلطة مع واشنطن، ورغبةِ النخبة في حكم مدني ديمقراطي، وفي الديون الضخمة ومتطلبات التنمية، والصراعِ حول كشمير فقط، بل إن علاقة الهند مع إسرائيل تمثِّل حلقة أخرى تساهم في تضييق الدائرة، فإسرائيل اليوم ثاني دولة مصدرة للأسلحة إلى الهند بعد روسيا، وهذا المحور بالذات يحدِّدُ مسارات إسلام أباد تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي باتخاذ البراجماتية في صراعها مع الهند الذي يتداخل بصورة أو بأخرى مع الصراع العربي- الإسرائيلي، لا سيما أن العلاقات العربية- الهندية جيدة. ومن ثم فإن أي تقارب باكستاني- إسرائيلي تمليه المصالح الإستراتيجية سيمثِّل تحدياً داخلياً شعبياً وخاصة مع الإسلاميين بمختلف مشاربهم. وفي الوضع الراهن، تتوالى الأحداثُ في باكستان لتضاف إلى ما يجري في العراق وأفغانستان، إلى جانب التعاون الأميركي- الهندي في مجال الطاقة النووية، والرغبة في تحييد الصين في آسيا من جهة، والضغوط الأميركية على باكستان لضرب "القاعدة" و"طالبان" داخل أراضيها من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى تعقيد دائرة التحرك الباكستاني. فالجنرال مشرّف اُضطر إلى نقض الهدنة مع الجماعات الإسلامية بإصداره أوامر للجيش بملاحقة "الإرهابيين"، وذلك في منطقة شمال وزيرستان، كما أن المؤسسة العسكرية بتصرفاتها تتجه إلى صدام بين سيادة الدولة وسيادة المجتمع القبلي النافذة في الإقليم، فما يحدث من صدام، وما جرى في المسجد الأحمر يزيدان الطين بِلة بعد تداعيات قرار مشرّف غير المدروس عزلَ رئيس المحكمة العليا. ولكن واشنطن التي تضغط على مشرّف لم تقرأ جيداً الوضع الداخلي لباكستان الذي يؤدي لا محالة إلى الاحتكاك بين الجيش وأطياف البلد العقائدية والعرقية. ربما كانت قراءتها الوحيدة أن دعم مشرّف والقضاء على "القاعدة" في باكستان كفيلان بتحقيق الاستقرار في أماكن أخرى كالعراق، وهو الخطأ بعينه، فـ"القاعدة" أصبحت "قواعد" في مناطق مختلفة. وربما كان الأمر طموحاً شخصياً للكاوبوي بوش للقضاء على المارق بن لادن. وفي زحمة الأحداث خرج علينا مخطط أميركي لضرب "القاعدة" و"طالبان" داخل باكستان متجاوزاً سيادة البلاد، ومردُّ ذلك عجزُ مشرّف عن كبح جماح "الأصوليين" ولجم سلطة القبائل التي تمنع الوصول إلى بن لادن. وقد رفضت باكستان هذه الفكرة جملة، ولكن قد لا ترفضها تفصيلاً. فقد أبدى مشرّف في "اللويا جيرغا" الأفغانية الباكستانية تمسُّكه بالمضيِّ قُدُما في الحرب على الإرهاب، وهو ما يتزامن مع زيارة ريتشارد باوتشر لباكستان. كل هذه الدائرة المحدِّدة للتحرك الباكستاني تفرضُها أوضاعٌ وعواملُ دولية وإقليمية وداخلية ستَحمِلُها على التعاطي أكثر مع الصين مستقبلاً، فعلاقة البلدين قوية في ظل ما تُفرِزه الأوضاع الآسيوية والعلاقات بين المثلث الصيني والهندي والباكستاني، وفي سياق ما تلعبُه واشنطن من دور في آسيا. فالصين ترى في باكستان حليفاً ممكناً ومهمّاً، لا سيما في مجال التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، إلى جانب كونها قريبة من الخليج، مع ما يعني ذلك من طرق تجارية جديدة. ومن الأمور المهمة أن الصين ما زالت لا تُدخِل البعدَ العقائدي في تعاملها مع باكستان وما قد يكون له من أثر على مسلمي الصين، فالمصالح المشتركة أكبر من ذلك بكثير. وعندما توَلِّي إسلام أباد وجهَها شطر الخليج العربي، فإنها تريد أن تستغل زخم العقيدة لحلحلة مشكلاتها مع الإسلاميين، إلى جانب ما ينطوي عليه ذلك أساساً من علاقات سياسية وأمنية متداخلة بين الطرفين، لا سيما أن باكستان ينظر إليها على أنها رادع مستقبلي مهم للقوى الكبرى في آسيا. وقد جاءت زيارة مشرّف للخليج العربي مؤخراً في إطار البحث عن الدعم أمام الخصوم في الداخل ومن أجل لقاء المعارضة في الخارج والسعي إلى تشكيل حكومة مدنية تحفظ مكانة الجيش وتوجهات البلاد في السياسة الخارجية، وذلك في خطوة لمحاكاة ديمقراطية العسكر التركية، مع ما في التجربتين من اختلاف. ها هو الرابع عشر من أغسطس يحل وإسلام أباد تنوء تحت تداعيات ما وقع ذاتَ حادي عشر سبتمبر في نيويورك وواشنطن... ولكن يبدو أن الخروج من الشرنقة بعيد بُعد المسافة بين المدينتين.