يسكت المرء عن الكتابة أو الحديث في بعض القضايا على الرغم من خطورتها عندما يبدو ألا جديد تحليلياً فيها، وأن مواقف الأطراف المقيدة باعتبارات خارجية لا يمكن حلحلتها طالما بقيت عناصر المعادلة على ما هي عليه، وبالتالي فإن الأزمات المرتبطة بتلك القضايا تبقى مراوحة في مكانها على الرغم من بعض المستجدات التي لا تغيِّر من الأمر شيئاً، ومن هذه القضايا الأزمة اللبنانية الراهنة، غير أن ما جرى في الانتخابات اللبنانية الفرعية في الخامس من أغسطس الجاري وبالذات في دائرة المتن الشمالي يحتاج وقفة لأهميته، وثمة "هوامش" كثيرة يمكن أن تضاف إلى ما جرى في "المتن اللبناني" أختار منها الأربعة التالية. ينبثق الهامش الأول من دلالات إجراء الانتخابات في أجواء سلمية وفي إطار من النزاهة والشفافية على الرغم من الاحتقان السياسي في لبنان، وهو أمر يحسب له حكومة وشعباً، فقد فاز خصم الحكومة في انتخابات المتن الشمالي بفارق ضئيل من الأصوات، وكان ممكناً بعمل يسير للغاية يجيده كثير من النظم العربية الحاكمة تغيير النتائج لصالح مرشح قوى الأكثرية، وكون هذا لم يحدث يمكن أن يعد فضيلة أخلاقية للحكومة. غير أن الأهم في تقديري أن أطراف اللعبة السياسية في لبنان تعرف أن عملاً كهذا لا يمكن أن يمر سياسياً، ومعنى ذلك أن ديمقراطية صناديق الانتخابات قد باتت مُحصَّنة في لبنان. صحيح أن ديمقراطية الصناديق ليست هي كل الديمقراطية، ولكنها دون شك عنصر مهم فيها. وإذا كان هذا ما يحسب للحكومة فإن القوى الشعبية المتنافسة في هذه الانتخابات -وبالذات في المتن الشمالي- يحسب لها أنها لم تهبط بعملية الانتخابات إلى حضيض العنف الذي وقع فيه كثير من التجارب الانتخابية العربية، والذي كان من شأنه أن يضيف فتيلاً جديداً خطيراً إلى الأزمة الراهنة في لبنان. والمحصلة أن الديمقراطية خرجت بأحد المعاني منتصرة من انتخابات المتن الشمالي، وهو ما يفتح بارقة أمل في مستقبل يمكِّن لبنان من عبور أزمته الراهنة بآليات ديمقراطية. أما الهامش الثاني فهو أخطرها جميعاً، ذلك أن نتيجة الانتخابات كانت واضحة: فقوى الأكثرية ربحت في بيروت وقوى المعارضة ربحت في المتن، لكن ما حدث بعد ذلك يشير إلى ملاحظة بائسة، فقد اعتبرت قوى الأكثرية أنها فازت "سياسياً" في مواجهة الفوز "الحسابي" للمعارضة لسبب يبدو في منتهى الغرابة -ولا أريد تأدُّباً أن أستخدم ألفاظاً أقسى- وهو أن زعامة الشارع الماروني قد انعقدت لأمين الجميل الذي خسر المقعد لكنه حصل على أصوات غالبية المارونيين الذين كان العماد عون يعتبر زعيمهم الأول في لبنان، وهو سقوط ما بعده سقوط في بئر الطائفية. نفهم أن يكون لبنان مكوناً من طوائف عديدة، وأن يقدم لنا نموذجاً يُحترَم في الديمقراطية التوافقية بين هذه الطوائف، ولكن أن يصل الأمر إلى أن تُقيَّم نتائج الانتخابات طائفياً فهذا تراجع خطير إلى الوراء، وتمترُس إلى أبعد الحدود بطائفية بغيضة. إن الدرس الأول الذي يعطى لأي طالب يدرس التمثيل البرلماني ينطوي على أن عضو البرلمان يمثل الأمة كلها ولا يمثل دائرته، وها نحن إزاء منطق يطالبنا بأن نقيِّم نتائج المرشحين حسب أعداد الأصوات التي حصلوا عليها من كل طائفة، وكأنه مُحرَّم على أي سياسي لبناني أن يبني تحالفاً وطنياً عبر الطوائف، مع أن هذا هو الأمل الوحيد في خلاص لبنان من طائفيته السياسية عبوراً إلى الدولة الحديثة، ولقد كانت إحدى إيجابيات الأزمة الراهنة أن الاحتقان السياسي الذي تولد عنها لم يكن بين الطوائف وإنما عبرها، فقوى المعارضة تضم مسلمين شيعة وسُنة -وإن بدرجة أقل- ومسيحيين مارونيين وأرمن بل وعناصر درزية مؤثرة في مواجهة قوى الأكثرية التي تضم مسلمين سُنة وقطاعاً مهماً من المسيحيين المارونيين وتياراً درزياً رئيسياً في تشكيل لا يمكن القول إن حدوده طائفية، لكنهم يتحدثون الآن عن زعامات طوائف وليس عن زعامات للوطن، ونسيت قوى الأكثرية أنها كذلك -أي قوى أكثرية- لأنها في انتخابات 2005 عقدت تحالفات عبر الطوائف أيضاً، فلماذا يكون الدوْح حلالاً على الأكثرية في انتخابات 2005 حراماً على المعارضة في انتخابات 2007 الفرعية؟ لا يقل عجباً عما سبق أن يقول البعض إن نتائج انتخابات المتن الفرعية قد قلصت فرص العماد عون في تولي رئاسة الجمهورية، ولستُ من الذين يعتقدون أن فرص العماد راجحة في التنافس على هذا المنصب على الأقل لأنه حليف سياسي للفصيل الأساسي في المعارضة وهو "حزب الله"، لكن القول إن نتائج انتخابات المتن الفرعية قد قلصت من فرصه ينطوي على طائفية لا تقل بغضاً عن سابقتها، لأن المعنى الكامن هو أن تراجع شعبيته مارونياً -وليس فقدانها- يقلل فرصه في الرئاسة. أعلم أن رئيس الجمهورية في لبنان يجب أن يكون مارونياً، لكنها المرة الأولى التي أعلم فيها أن الطائفة المارونية هي التي ينبغي أن تنتخبه، فالمفروض أن تكون فرص أي ماروني في الوصول إلى سدة الرئاسة منوطة بقدرته على عمل تحالفات عبر الطوائف، لأن من ينتخبونه في النهاية هم أعضاء مجلس النواب الذين يمثلون كل طوائفه، وليس أعضاء مجلس النواب من المارونيين. ثم إنه حتى القول إن انتخابات المتن قد أكدت زعامة الجميل للشارع الماروني أمر يمكن التشكيك فيه، أولاً لأن النِّسب متقاربة للغاية، ووفقاً لأقصى التقديرات فقد حصل الجميل على أصوات 57% من المارونيين، ولا يجب أن ننسى أنه رئيس جمهورية سابق هُزِمَ أمام مرشح عادي، وكذلك أنه كان يتنافس على المقعد الذي خلا باغتيال ابنه، ولذلك فمن المحتمل أن يكون بعض المشاركين غير المُسيَّسين قد رأى أن واجب اللياقة واحترام المشاعر الإنسانية يقتضي أن يذهب المقعد للرجل، وبالمناسبة فإن ثمة معنى سياسياً إيجابياً -على الرغم من الغصة الإنسانية- في ألا يورث المقعد من الابن لأبيه في سياق يفترض أن السعي فيه مطلوب لبناء دولة حديثة، وقد يتصل هذا بأحد شعارات عون ضد "البيوتات السياسية" في لبنان التي تزيد على المعنى السياسي للطائفة معنى شبه إقطاعي. يتعلق الهامش الثالث بـ"الفزَّاعة السورية"، فقد نسبت قوى الأكثرية لهذه الفزَّاعة دوراً في هزيمة الجميل، وقد تعودت هذه القوى أن تعتبر سوريا دون أي دليل مسؤولة عن أي عملية اغتيال أو تخريب سياسي في لبنان، وها هي تنسب هنا لحلفاء سوريا و"المتجنسين" دوراً في الهزيمة، وهنا تجب التفرقة بين أمرين: أن يكون المقصود بذلك هم حلفاء سوريا السياسيون، وهذا قدر ينبغي أن تسلم به قوى الأكثرية: أن لسوريا أنصارها داخل لبنان كما أن لها أعداءها. أما مشكلة "المتجنسين" فقد كانوا يعلمون بها قبل الانتخابات فلماذا الشكوى منها الآن؟ لقد آن الأوان لبلورة خطاب عاقل ورزين لقوى الأكثرية في مواجهة سوريا، التي لا يمكن محو تأثيرها في لبنان ببساطة، بغض النظر عن رفض دعاوى الهيمنة من أي نوع. يفتح الهامش الأخير كوَّة في الجدار السميك للأزمة اللبنانية، فنتيجة للندِّية الواضحة بين قوى المعارضة والأكثرية في لبنان، وبعد الصخب السياسي والإعلامي الذي تلا إعلان النتائج يحسب للجميع أنهم تحدثوا بلغة عاقلة، فقد دعا عون إلى حكومة وحدة وطنية ماداًّ يده لقوى الأكثرية، وصرح جعجع رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية بأن معسكره قد حصل على ما لا يقل عن 51- 52% من أصوات المارون، وفي أسوأ الأحوال -وفقا له- فإنه وحلفاءه يمثلون نصف المارونيين وعون يمثل نصفهم الآخر، ويفترض أن ينعكس هذا على انتخابات الرئاسة، وليت هذا المنطق العاقل يسود بدلاً من الإيغال في استخدام المفردات الطائفية في بلد لا تنقصه عوامل الانقسام.