عندما وافق "روبرت إم. جيتس"، وهو واحد من أكفأ الموظفين العموميين، وأكثرهم إخلاصاً، على تولي منصب وزير الدفاع خلفاً لدونالد رامسفيلد في شهر نوفمبر الماضي، بدا وكأنه يفعل ذلك انطلاقاً من الشعور بالواجب، لا من الرغبة في المنصب. وباعتباري من الأشخاص الذين تشرفوا بقيادة وزارة الدفاع الأميركية، فإنني حاولت أن أتخيل الأفكار التي ربما تكون قد مرت بذهن هذا الرجل خلال الشهور التسعة الماضية، وذلك في صيغة مونولوج داخلي خيالي تماماً يجب ألا يؤخذ كله أو جزء منه على أنه مُعبِّر عن آراء "جيتس":
ما الذي دفعني لتولي هذه الوظيفة؟ لقد أحببتُ دوماً أن أتولى رئاسة مؤسسة مدنية أتعامل فيها مع قوم طيبين ولا أكون مسؤولاً أمام أحد سوى مجلس أمنائها، وأن يكون معظم عملي في الظل. صحيح أنني من رجال "السي.آي.إيه" القدماء، ولم أتأخر يوماً عن تلبية نداء الواجب، ولكن أليست لهذا الواجب حدود؟
لقد أكملت بالكاد عاماً في هذه الوظيفة، ومع ذلك فإن الجميع تقريباً يريدون أن يحكموا على أدائي، على رغم أنه يجب أن يمر وقت طويل حتى يمكن الحكم على شيء مثل هذا.
إنني أعرف بالطبع الكثير عن الأمن القومي، ولكن ذلك لا يجعل مني خبيراً عسكرياً بالضرورة. لذلك فإن الأمر يستلزم مني وبسرعة الإلمام الجيد بالعديد من الموضوعات.
لقد كان يتوجب عليَّ أن أعيد بناء الثقة مع العسكريين، وهذا ما فعلته، وأعتقد أنني قد نجحت في تحقيق التوازن المطلوب فيه. فقد كان مطلوباً مني في هذا السياق مثلاً أن أكون قريباً من هؤلاء الرجال، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلني أسيراً لهم. سأحرص على ألا يكون من بين هؤلاء الرجال ضباط ضعاف الشخصية ينفذون ما أقوله دون مناقشة، ولا آخرون متملِّقون يسمعونني ما أود سماعه.
نحن بحاجة إلى التعاون لأن مشكلاتنا ليست لها حلول سريعة. فقواتنا تنتشر في مواقع عديدة في العالم، وجيشنا يبدو وكأنه غير قادر على الاستمرار في تنفيذ خطة زيادة عدد القوات في العراق حتى الربيع القادم، والقوات البحرية بحاجة إلى المزيد من السفن، والجوية غير قادرة على الحصول على الطائرات التي تريدها.
وعلى رغم امتلاكي القدرة على التعامل مع كافة الأمور التقليدية إلا أنني لست واثقاً مما إذا كان الوقت المتبقي أمامي سيكون كافياً بدرجة تسمح لي برسم رؤية استراتيجية شاملة لحماية الشعب الأميركي وحماية حلفائنا في عالم متغير. وعلى رغم أن المرء قد يجد صعوبة في التعامل مع الكونجرس، إلا أنني معتاد على ذلك، وأعرف أن كل ما هو مطلوب مني هو أن أظهر لهم الاحترام، وأن أعرف أنهم وإن كانوا يكرهون الميزانيات الإضافية إلا أنهم لن يقوموا بتخفيض أي شيء قد نحتاجه في العراق.
ويجب علينا أن نُبقي على قنوات الحوار والتواصل مع حلفائنا مفتوحة، حتى نضمن أن أنهم سيكونون معنا لا أن يكونوا ضدنا.
وهناك أيضاً آلية صنع السياسات بين الإدارات والوكالات المختلفة، والتي أصيبت بالعطب بسبب انتشار الأنانية وحرص كل إدارة على إبراز ذاتيتها وحماية صلاحياتها والاتفاق على المبادئ العامة، وينطبق هذا بشكل خاص على وزارتي الدفاع والخارجية، اللتين خرج تنازع الاختصاصات بينهما عن الحدود المألوفة في السنوات القليلة الأخيرة.
إنني أحمل الكثير من التقدير لكوندوليزا رايس، وآمل أن يؤدي السفر معها إلى الشرق الأوسط إلى توفير دفعة إقليمية قوية من أجل احتواء إيران. فالدبلوماسية ليست كلمات مُنمََّقة وإنما هي في الأساس أداة من أدوات تحقيق الأمن القومي، ولكننا للأسف لم نستخدمها على أنها كذلك بشكل كافٍ خلال السنوات القليلة الماضية. فعلى سبيل المثال كان يجب أن تحتوي استراتيجيتنا الخاصة على التعامل مع إيران، على جزء يتضمن قيامنا بالوساطة من أجل التوصل إلى نوع من التفاهم بين الإسرائيليين والفلسطينيين.. ولست أدري لماذا لم يتم ذلك حتى الآن؟
لذلك كله أعتقد أنني بحاجة إلى الحديث مع الرئيس بوش مباشرة. وهذا لن يكون بالأمر السهل بالطبع، ولكنني مَدينٌ له بذلك. وعلى رغم أنني أخدم في منصبي بناء على اختياره، إلا أنني سأكون حريصاً دوماً على أن تكون أفعالي صائبة، وليس الغرض منها إرضاؤه هو فقط، أو إرضاء نائبه، فأنا لم أقبل الوظيفة من أجل ذلك.
ويجب عليَّ أن أُجري الكثير من عمليات التنظيف والتطهير في وزارتي، وسأعمل في هذا الإطار على التحرك بسرعة من أجل مواجهة أي إهمال في أداء الواجب، أو إخفاق في الوصول إلى أعلى مستويات الأداء. إن الأحوال في مستشفى "والتر ريد" العسكري قد وصلت إلى مستوى لم يكن ممكناً السكوت عنه، علاوة على أن الطريقة التي أدرنا بها معتقل جوانتانامو أدت إلى تلويث سمعتنا، ولذا يجب علينا إغلاقه.
وعليَّ ألا أهتم بالمتشككين والمتهكمين من أعضاء الفريق الصحفي في البنتاجون، وأن أتجاوز ذلك وأكون حريصاً على عدم التلاعب بالكلمات، أو الالتفاف حول الموضوعات العويصة.
وعلى رغم أنني لا أوافق على كل ما جاء في تقرير لجنة "بيكر- هاميلتون" إلا أن الشيء الذي لا أفهمه حتى الآن هو رفض بوش لتبني ما جاء في ذلك التقرير على الأقل من حيث المبدأ (والمفارقة هنا أنه عمل على تنفيذ معظم ما جاء فيه من توصيات، بما فيها التباحث مع إيران بشأن العراق). وهكذا فإننا بدلاً من الإجماع السياسي، الذي كان يمكننا الحصول عليه في حالة الموافقة على ما جاء في التقرير، فإننا لم نحصل سوى على مرشحين لخوض انتخابات الرئاسية يزايدون على مسألة الخروج من العراق لأغراضهم الانتخابية.
إن الجميع تقريباً يفهمون أننا لا نستطيع أن ننجح من الناحية العسكرية فقط. فزيادة عدد القوات والصلات الجديدة التي أقمناها مع زعماء السُّنة، يمكن أن تنجح في بعض المناطق لبعض الوقت، ولكن يجب علينا أن ندرك أنه ما لم يكن الزعماء العراقيون راغبين في اتخاذ الخيارات الصعبة، فإن النجاحات التي نحققها لن تزيد على كونها مجرد آثار أقدام على الرمال، سرعان ما تذروها الرياح.
وفي نفس الوقت نجد أن إيران تشعر بالتشفي تجاهنا. فالملالي يريدون إخراجنا من العراق، ولكن ليس قبل أن يستنزفوا آخر قطرة من دمائنا ويدمروا مصداقيتنا. ولكنهم يجب أن يعرفوا أنهم يخطئون خطأً جسيماً إذا ما اعتقدوا أنهم سيكونون مطلَقي الحرية في العمل في المنطقة، إذا ما غادرنا العراق، لأننا سنظل في المنطقة، بل وقد نبقى في الفناء الخلفي لإيران ذاتها.
ليس بمستطاعنا أن ننسى "القاعدة". وأنا في حاجة في هذا السياق إلى التركيز على إزالة كافة العقبات التي تحول بين رجال استخباراتنا وبين وضع النقاط على الحروف، وأن أعمل على تسهيل عمل كل تلك الأقسام باهظة التكلفة من جهازنا الاستخباراتي لإبلاغي بكل ما يدور، والتعاون بشكل جيد مع زملائهم في "لانجلي" (مقر قيادة سي.آي.إيه)، وأن أركز أيضاً على إقناع "الناتو" بوضع المزيد من القوات في أفغانستان، وعلى دفع الجنرال برويز مشرف إلى بذل المزيد من الجهود في ملاحقة رجال "طالبان" في باكستان. كما أنني بحاجة للانتهاء من الخطة المتعلقة بتقليص عدد قواتنا في العراق في نهاية المطاف.
وليس هناك ما يدعو للدهشة بعد كل ذلك في أنني لم أسْعَ لهذه الوظيفة. ولكنها غدت وظيفتي الآن. وإذا ما أديتها على النحو الصحيح، فإننا ربما نكون قادرين ذات يوم على أن نقول إن "المهمة قد أُنجزت"، وأن نعني ذلك حقاً.

ويليام كوهين
وزير الدفاع الأميركي 1997-2001
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"