قبل عشر سنوات من الآن، كانت العولمة المالية تبدو مرعبة للكثيرين. وامتدت عاصفة الأزمات المالية من شرق آسيا إلى روسيا وصولاً إلى البرازيل. كما أرغمت أرصدة رؤوس الأموال المخاطرة التي عمت العالم كله في ذلك الوقت، وكذلك إدارة رؤوس الأموال على المدى البعيد، بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على إيجاد مخرج للبلاد من تلك الأزمة العالمية. غير أنه بات ممكناً اليوم تذكر ذلك العقد المالي المضطرب، بما يقدمه لنا من دروس نقيضة اليوم. فإذا ما مر العالم اليوم سالماً معافى إلى حد ما، عبر الاضطرابات المالية التي يمر بها الآن، فما ذلك إلا بفضل العولمة المالية التي شهدها ذلك العقد. وهكذا يمكن القول: إن "عفريت العولمة المالية" المرعب بالأمس، قد تحول إلى بطل تهلل له بيوتات المال والاستثمارات الدولية اليوم. وكان المتشائمون قد تكهنوا منذ عام 2001، بأن الولايات المتحدة الأميركية سوف تغرق في مياه انغماسها المالي الخاص. وكانت إدارة بوش قد ورثت ميزانية فيدرالية عن الإدارات السابقة لها، عرفت بحسن مستوى ادخاراتها السنوية. غير أنها اتخذت قراراً طائشاً بخفض الضرائب المقررة على الشرائح الغنية من أفراد المجتمع، بينما واصلت إنفاقها للأموال مثلما يفعل البحارة المخمورون. ولكن الذي حدث هو أن الولايات المتحدة تمكنت من تجنب العواقب المالية الكارثية المتوقعة لهذا الإسراف الأخرق للإدارة. وبالنتيجة لم يؤد نهم الإدارة الذي لا يشبع للاستدانة، لارتفاع يذكر في معدلات الفائدة، بسبب القدرة الهائلة التي أبداها الدائنون الأجانب على توفير المزيد والمزيد من القروض التي تحتاجها بلادنا. وهكذا فقد ثبت استقرار واستدامة هذه القدرة المالية الخارجية، على نحو لم يتكهن به أي من المحللين والمراقبين الاقتصاديين مطلقاً. ثم تلا ذلك التكهن المتشائم تكهن آخر، اعتمد على شره الاستدانة الذي أبدته كل من البنوك ومؤسسات المال الخاصة العملاقة ورؤوس الأموال المخاطرة، متجاوزة بذلك الطيش والإسراف الماليين اللذين اتسمت بهما إدارة بوش نفسها. وكان في تقدير الكثير من المحللين، أن هذه البهرجة المالية سوف تصل إلى نهايتها قريباً وأن التداعيات المالية المترتبة عنها، سوف تصبح كارثية لا محالة، ما أن ينفض الحفل ويخفت الضوء وأزيز الرقص والآلات الموسيقية. بيد أنه لا يزال لازماً اختبار مدى صحة هذا الافتراض. وبالفعل فقد حلت النهايات المتوقعة لسهولة الحصول على المال، بينما تم تجميد القروض الأكثر مخاطرة من غيرها مبدئياً. لكن ومثلما تمكنت إدارة بوش من الهرب من معاقبتها على طيش ممارساتها المالية وسوء تصرفها في الميزانيات العامة، فربما يتمكن النظام المالي من الهرب من التداعيات الكارثية التي يجرها عليه أداؤه ، وإن كان ذلك الهرب نسبياً على أقل تقدير. والسبب هنا هذه المرة أيضاً، يكمن في قدرة الدائنين الخارجين على مواصلة توفيرهم للقروض. وكما نعلم فإن العالم غارق بأرصدة وأموال المدخرات، بينما يزداد حرص الأسواق على نقل الأموال إلى حيث تنشأ الحاجة إليها. وبينما اشتهرت كل من منطقة شرق آسيا وروسيا بتصديرهما للإرهاب قبل عقد مضى، فها هما الآن تشتهران بتصديرهما لرؤوس الأموال. وليس أدل على هذا من قدرتهما الآن، إلى جانب بعض الدول الأخرى، على إقراض الولايات المتحدة الأميركية بمعدل يصل إلى 16 مليار دولار أسبوعياً. ومع معدل عال كهذا، فإنه ليس كافياً أن يؤدي اختفاء بضعة ملايين من الدولارات التي يوفرها الدائنون الأميركيون المغلوبون على أمرهم من الموازنة العامة، للاستغناء عن هؤلاء الدائنين الخارجيين. وفي حين تلطخت سمعة رؤوس الأموال المخاطرة، وبدت صورتها سيئة للغاية- قبل عقد مضى- مقارنة برؤوس الأموال الطويلة الأجل، فقد أصبح لرؤوس الأموال المخاطرة هذه دور جديد مغاير لما كانت تؤديه في سوق الاستثمارات المالية سابقاً. والذي تفعله رؤوس الأموال هذه، أنها تعيد تشغيل أرصدة المدخرات، بما فيها الأرصدة الأجنبية، وذلك بإدخالها في دورة النظام المالي العالمي، فتساعد بذلك في تخليصه من أعراض عدم الاستقرار التي يعانيها. ومثلما في حادثة إنقاذ رؤوس أموال شركة "سوود" حيث ضخ المستثمرون أموالاً بلغ حجمها 23.7 مليار دولار خلال الأشهر الستة الأولى من العام المالي الحالي على منتجاتها، مما أدى لإنقاذ 15 وحدة من الوحدات التابعة لها، بعد أن كانت هذه الشركة المتخصصة في إدارة رؤوس الأموال المخاطرة، قد خسرت خلال الآونة الأخيرة حوالي 1.5 مليار من أصولها المالية. وهكذا أثبتت رؤوس الأموال هذه قدرتها على التحول من كونها سبة في سوق الأموال العالمية قبل عقد واحد مضى، إلى قوة دفاعية قادرة على إنقاذ هذه الأسواق من كبواتها وأزماتها في عالم اليوم. يذكر أن الكثير من المحللين الماليين والاقتصاديين، كان قد ساد التفاؤل بينهم بظاهرة العولمة المالية، قبيل وقوع الأزمات الشهيرة التي شهدها عقد التسعينيت. بيد أن ذلك التفاؤل قد انقلب إلى تشاؤم بالظاهرة، ما أن تتالت الأزمات وعمت أرجاء المعمورة كلها تقريباً. لكن واعتماداً على الأداء المتوقع لأسواق المال العالمية خلال الأسابيع القليلة المقبلة، فربما تطغى موجة أخرى من التفاؤل في أوساط هؤلاء المحللين والاقتصاديين. كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"