من المؤكد أن نية الإدارة الأميركية برئاسة بوش الصغير الانتقام من صدام حسين ونظامه، وبالتالي الغزو العسكري للعراق، كانت تحمل في طياتها نوايا أخرى كثيرة؛ ليس أقلها فرض السيطرة على الثروة النفطية العراقية، ولكن أكثرها أهمية هو تأكيد القوة والهيبة الأميركية التي نالت منها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وإعطاء المثل والنموذج لمصير أي أنظمة حاكمة قد تسول لها نفسها أن تفكر في تهديد المصالح الأميركية، وفي الوقت ذاته ضمان الأمن المطلق للدولة العبرية بالتواجد العسكري الأميركي المباشر في قلب الشرق الأوسط. وفي سبيل تحقيق هذه النوايا اعتمدت إدارة الرئيس بوش الصغير على مرتكزات عدة في إدارة سياستها الخارجية، حيث ترى أن الأمن القومي يفوق في أهميته باقي الاعتبارات، بما في ذلك حقوق الإنسان والشؤون الإنسانية الأخرى، وأن للولايات المتحدة وحدها الحق في تحديد مشروعية سلوكها الخارجي، كما أن الولايات المتحدة تمتلك القوة العسكرية الكافية للتأثير في الشرعية الدولية، وأن أميركا فقط هي من يحاسب أميركا على سياستها الخارجية، وهذه الاعتبارات تعني مفهوماً أنانياً وغير اجتماعي للسياسة الخارجية والنظام الدولي. ولكن بعد مرور أكثر من أربع سنوات على بدء العمليات العسكرية في العراق، تبرز الحاجة إلى التعرف على ما تحقق من هذه النوايا وفق "كشف حساب" ومراجعة شاملة، حيث نجد أن الثروة النفطية باتت تحت يد الإدارة الأميركية سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن هذا لم يمنع من وجود أيدٍ أخرى عبثت بهذه الثروة، ما بين سرقتها وتهريبها حيث تؤمن طرقها إيران، وبين توزيع واقتسام بعض عائداتها بين من نصبوا أنفسهم ورثة على تركة العراق، وبين التلاعب في حسابات هذه الثروة تحت زعم استخدامها لإعادة إعمار العراق. أما من ناحية تخويف الأنظمة الحاكمة من مصير صدام حسين وزبانيته، فإنها قد آتت ثمارها في اتجاهات وفشلت في اتجاهات أخرى، فمن أبرز الدول التي شعرت بما حدث للنموذج العراقي "الجماهيرية الشعبية الديمقراطية العظمى" التي أعلن زعيمها الاستسلام الفوري والتام للمطالب الأميركية خوفاً من المصير الصدامي، وكذلك كان حال نظام كوريا الشمالية التي عاندت لفترة غير قصيرة ثم سرعان ما تنبهت للنموذج العراقي، أما إيران وسوريا، اللتان يجب ألا يغرّنا تشددهما المعلن، فإنهما في الخفاء تقومان بالعجب، من تسهيلات عسكرية وتجنب التهديد المباشر، وبعث الرسائل غير المباشرة باستعدادهما للدفاع عن المصالح الأميركية مقابل التمسك بالكرسي وعدم زوال السلطة. أما معظم دول العالم "النايم"، أقصد "النامي"، فإنها قررت إلغاء كلمة "لا" من قاموسها السياسي في تعاملها مع الإمبراطور بوش الصغير وإدارته، والاستجابة بلا تردد لطلباته وأوامره بل وإشاراته. أما بالنسبة لاستعادة أميركا لهيبتها المفقودة، فهو أمر مشكوك فيه بعد أن تجاوزت بتصرفاتها وسلوكها العدائي الشرعيتين الدولية والوطنية، فقد أثار غزو العراق قلقاً واسعاً بشأن قدرة النظام العالمي المستقبلية على تنظيم استعمال القوة، لأن الغزو ظهر وكأنه يزيح الشرعية جانباً بقرار استعمال القوة، وتخطي مجلس الأمن مصدر القانون الدولي، والسبب في هذا القلق يكمن في هيكل القوة في النظام العالمي الحالي، حيث تلعب الولايات المتحدة الدور الأساسي في المنظومة الدولية، وهي الدولة القوية الوحيدة. ولم تستطع الولايات المتحدة إقناع العالم بأن قوتها ليست مصدراً للتهديد، لأن وضعها الاستراتيجي ارتبط برفضها الاعتراف بالكثير من المعاهدات الدولية المتعلقة بالبيئة والمحكمة الجنائية وغيرهما. لقد ضمت الحركة المناهضة للحرب في العراق العديد من المجموعات الدينية ونقابات العمال والمدافعين عن البيئة والمنظمات النسوية والأكاديميين ورجال الأعمال والفنانين والموسيقيين وكثيرين آخرين، وقادت في النهاية إلى أن تفقد أميركا احترام العالم لقوتها من جانب، وضعف هيبتها نتيجة عدم قدرتها على حسم مواقفها العسكرية. وعلى الرغم من كون الولايات المتحدة القوة العظمى في هذا العالم الأحادي الجانب، ورغم استحالة تحديها من قبل دول العالم الأخرى، فإنها لا تستطيع العمل وحدها في حل المشكلات العالمية العالقة، وحرب العراق كانت ذروة محاولات الولايات المتحدة جعل نفسها محور الشؤون الدولية، وفي هذه المحاولة مُنعت الأمم المتحدة من لعب أي دور في تشكيل النظام العالمي. ولكن الغزو الأميركي للعراق الذي ضرب بكل التحذيرات عرض الحائط؛ قد أدى إلى شرق أوسط غير مستقر ومتخم بالأخطار، ووضع مستقبل الدولة في العراق في مهب الريح، وبالمثل أفغانستان التي تعاني اليوم محاولات "طالبان" استعادة سيطرتها على الدولة، ولم تحترم القوة العظمى بقيادة الإمبراطور بوش الصغير الشرعية الوطنية. لقد أثبتت حرب العراق أن الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة لديها الرغبة والقدرة في انتهاج سياسة خارجية أحادية الجانب تعتمد على القوة القاهرة، ولكن تبعات هذه الحرب أوضحت أن الولايات المتحدة غير قادرة على أن تدفع بسياستها الخارجية دون الاستعانة ببقية العالم، أي إن حرب العراق أثبتت أن تعددية الأطراف هي الفكرة الصائبة في العلاقات الدولية. وبالنسبة لتوفير الأمن المطلق للدولة العبرية فإن ما حدث خلال السنوات الماضية يدل بكل سهولة على انكشاف هذا الأمن، بل إن الجيش الإسرائيلي ذاته فقد هيبته، ولم تستطع الآلة العسكرية الجهنمية الأميركية أن تفعل له شيئاً مقابل هزيمته من "حزب الله" اللبناني والعمليات الانتحارية للفلسطينيين. ومن الواضح اليوم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أفقدت الإدارة الأميركية صوابها، وسجلّ إدارة بوش الصغير يقول إنه بالإضافة إلى الحرب في العراق، هناك نقض معاهدة الحد من الصواريخ البالستية، والانسحاب من مباحثات مؤتمر الأسلحة البيولوجية، ومن معاهدة كيوتو حول الاحتباس الحراري، وإفشال المحكمة الجنائية الدولية، ورفض معاهدة الحد من التجارب النووية، وعدم التوقيع على معاهدة حقوق الطفل وغيرها من الاتفاقيات العالمية. ومن الغريب والمثير للدهشة معاً، أن معظم دول العالم كانت، ولا تزال، في موقف المتفرج من اللاعقلانية الأميركية، بل الأغرب أن كثيراً منها يدفع ثمن الفاتورة الأميركية دون أن يسأل عن السبب، حتى حلف "الناتو" الذي تمتلك أميركا الكلمة العليا فيه، لم يلعب أي دور أساسي في الحرب على العراق، أو في الرد الأميركي على الطالبان في أفغانستان بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهذا يعني تراجع النفوذ الأميركي المؤثر في الحلف. أما دول الاتحاد الأوروبي التي نعتتها الإدارة الأميركية بـ"التخلف"، فقد واجهت ثلاث عواقب منعتها من انتهاج سياسة موحدة تجاه قضية العراق، من أهمها الغياب الكبير للثقة من قبل الجمهور الأوروبي في أهداف إدارة الرئيس بوش الصغير، والاعتراض على الحرب كحل للقضايا العالقة، كما ظهرت الحرب على العراق وكأنها مُوجَّهة ضد العالم الإسلامي، وبالطبع أثر ذلك كله على الصورة الأميركية لدى الشعب الأوروبي، وجعله يشعر بأن الإدارة الأميركية تواقة للحرب والقتل والتدمير دون سبب واضح. ففي حين كان الجمهور الأوروبي متعاطفاً مع الولايات المتحدة بعد هجمات سبتمبر 2001، ومع الرد الأميركي في أفغانستان، أصبح هذا الجمهور ناقداً لأميركا بعد إصرارها على مهاجمة العراق، والآن يُشكل احتلال العراق مشكلة كبيرة، فالجمهور الأوروبي يتساءل: كيف يمكن إبقاء القوات الأميركية في العراق دون أن يكون هناك مقاومة عنيفة ضدها؟ وكيف يمكن لأميركا أن تترك العراق دون أن تسبب عدم استقرار في المنطقة؟ وكيف يمكن القيام بالحرب على الإرهاب في الوقت نفسه الذي تحاول فيه أميركا القيام بحرب ضد مقاتلين في العراق؟ لهذا فإن هناك الكثير من التشكك في أوروبا في حقيقة توجهات السياسة الأميركية في العراق. لقد أدت حرب العراق إلى حدوث شرخ في التفكير العالمي حول أهمية ومشروعية التدخل الإنساني لحماية الشعب من نظام ظالم، وشككت في كثير من النوايا الأميركية، وقادت إلى كارثة إنسانية بكل المقاييس، وبقي على المجتمع الدولي أن يقول كلمته، ويقوم بما يمليه عليه ضميره، لاستعادة الأمن والأمان في العراق، وكبح جماح المارد الأميركي وحمايته من نواياه.