من يزور الولايات المتحدة هذه الأيام يرى أن أجهزة الإعلام ومعظم دوائر الرأي العام، تتابع عن كثب الوضع السياسي المتدهور في العراق، وكذلك الأوضاع الداخلية، خاصة مسألة صيانة الجسور والطرق، التي أثارتها حادثة انهيار الجسر الحديدي المُعلّق في مدينة مينابوليس بولاية مينسوتا. ويظن المرء للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة التي ستخرج مثخنة من الحرب في العراق، ستنكفئ على نفسها لفترة زمنية قادمة، وستستعيد أغاني السلام في الستينيات مرة أخرى. وكذلك أن من ساق القطيع إلى الحرب من أقطاب اليمين المحافظ الجديد، سيعلن التوبة ويطلب الغفران، وسينزوي في زوايا التاريخ المظلمة. غير أن الحقيقة غير ذلك، فمن يزور المكتبات العامة ودور بيع الكتب، يفاجأ بأن الكتب التي يكتبها المرشحون السياسيون في الانتخابات القادمة تملأ الرفوف، فهذا كتاب يتحدث عن منجزات السيدة "هيلاري كلينتون" في مجلس الشيوخ، وذاك يشرح البرنامج الانتخابي للمرشح الجمهوري "رومني"، وثالث يناقش قدرة المرشح الأسود "أوباما" على جذب المُناصرين والمتبرِّعين. ومثل هذا الاهتمام بمرشحي الرئاسة أمر طبيعي في هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية. ولكن المثير للدهشة هو ظهور حزمة كبيرة من الكتب مما يكتبه الجنرالات والضباط العسكريون وغيرهم من أنصار اليمين المحافظ، وهم ينبرون للدفاع عن السياسة الخارجية الأميركية، وأقطابها، وصُناع قرارات الحرب في الإدارة، وينتقدون بشدة ما فعله الموظفون والبيروقراطيون داخل الأجهزة الأمنية من عبث وتقصير في إدارة الشؤون الأمنية والعسكرية. وقد لا يتوقع المرء أن يكون هناك العديد من الضباط المثقفين، حيث اقتصر هذا المجال في الماضي على أساتذة الجامعات والمحامين والصحافيين، أما اليوم فقد دخل دائرة الضوء عدد من الضباط العسكريين الذين يكتبون أعمدة أسبوعية في الصحف، وفي بعض الأحيان تحت أسماء مستعارة. ولعل أهم الكتب التي تتلمس الأعذار للقادة السياسيين المحافظين، كتاب "ستيفين هيز"، الذي كتب سيرة ذاتية لنائب الرئيس "ريتشارد تشيني". ويصف "هيز" تشيني بأنه من طراز خاص يعطي وزناً وثقة جديدين لمنصب نائب الرئيس في الإدارة الأميركية، بعد أن كان هذا المنصب ولفترة طويلة ذا طابع تشريفي بحت. أما تشيني فإنه بالفعل قاد -هو وأعوانه- الحرب ضد العراق، واستطاع أن يؤثر بشكل كبير في السياسة الأميركية. وتتبع "هيز" حياة تشيني منذ التحاقه بالعمل السياسي كمتدرِّب في الكونجرس عام 1968، وحتى توليه منصب نائب الرئيس عام 2000. ويرى الكاتب أن الهاجس الرئيسي لتشيني منذ وصوله إلى واشنطن قبل أربعين عاماً، هو أن يعزز من قدرة ونفوذ السلطة التنفيذية في النظام السياسي الأميركي، مقابل تعاظم نفوذ السلطتين التشريعية والقضائية. ومن بين العسكريين يبرز المؤلف الكولونيل "روبرت باتسرون" الذي يتهم اليسار الأميركي بأنه يحاول النيل من القوات المسلحة ورجالها ومكانتها، برفعه لقضايا قانونية بخصوص جرائم الحرب في العراق. ففي كتابه الموسوم: "جرائم الحرب" يدَّعي باترسون أن الليبراليين في الولايات المتحدة، وصحافتهم، كانوا على الدوام معادين للجيش والعسكرتاريا، وكذلك الحال مع الأكاديميين وصُناع أفلام هوليوود، ولذلك فإن على الولايات المتحدة هزيمة الحملة الليبرالية على رجال الجيش. ويبني "باترسون" فرضيته على مقابلات قام بها عدد من الجنود الذين يقاتلون في العراق، وكيف أنهم يرون أنهم يحاربون من أجل مجتمع لا يحس بما يقومون به من تضحيات جسيمة، على حد زعمه. أما الكاتب العسكري الآخر، الذي يمتهن الكتابة السياسية المُوجَّهة فهو "جدْ بابن"، ففي كتابه: "كلمات أعدائنا" يتتبّع ما يقوله الساسة المعادُون للولايات المتحدة في خطاباتهم بدءاً من "هوجو شافيز" وليس انتهاءً بأحمدي نجاد. أما الكتاب المحزن حقيقة، فهو كتاب "باربارا أولسون" الكاتبة اليمينية التي لقيت حتفها في أحداث 11 سبتمبر في الطائرة التي سقطت فوق مبنى البنتاجون. ففي هذا الكتاب تروي "أولسون" كيف أن الرئيس كلينتون في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، قد أساء كثيراً للشعب الأميركي بإصداره عفواً رئاسياً عن "مارك روتش" وغيره ممن تسميهم "أولسون" بالشيوعيين الأميركيين. ويمضي الكُتّاب اليمينيون في هذا الاتجاه، فهذا كاتب عسكري سابق "ماركوس لوتر" يؤلف كتاباً يتحدث فيه عن بطولته في عملية قام بها مع تسعة من رفاقه من المارينز (من فرقة كلاب البحر) ضد أهداف وشخصيات إرهابية في باكستان، ويشرح كيف أن مقاتلي "طالبان" قتلوا رفاقه التسعة، إلا أنه استطاع الإفلات منهم بعد جرحه في أراضٍ مُعادية. أما "روان سكاربرو" في كتابه "التخريب: أعداء أميركا داخل السي. آي. أيه"، فيكيل التهم ضد موظفي المخابرات الذين أحبطوا محاولة لاغتيال زعماء "القاعدة" في باكستان عام 2005. وأنهم وقفوا ضد الرئيس في حربه ضد الإرهاب، وسرّبوا معلومات مهمة سرّية إلى الصحف الأميركية، وهم بهذا يُسألون عن فشل عمليات المخابرات. أما الكاتب الآخر الذي يدرس نفس الوكالة، ولكن بشكل تحليلي أكثر عمقاً، فهو "توم ويني" الذي يدرس تاريخ الـ"سي. آي. أيه"، بناءً على الضغوط التي مُورست عليها من مختلف الرؤساء في الإدارات الأميركية، وكيف أن هذه الضغوط منعتها من القيام بمهامها الأساسية في جمع المعلومات، وحوَّلتها إلى مهام شبه عسكرية. ويؤكد الكاتب، أن الوكالة قد فشلت بسبب إصرارها على جعل العالم صورة لمشيئتها وإرادتها، بدلاً من محاولة فهم العالم بناءً على معطياته الخاصة به. لذلك فهذا يبرر فشلها التاريخي في عدم توقع قيام الثورة الإيرانية، أو سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره، أو حين قدمت معلومات مغلوطة ومضلّلة عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. أما "روبرت نوفاك"، الصحفي اليميني المعروف، فقد كتب سيرة ذاتية عن حياته في الصحافة والتلفزيون في عمله في واشنطن العاصمة، ويعترف "نوفاك" بأن الصحافيين يستخدمون قدرتهم على تشويه سمعة السياسيين والمتنفِّذين في الإدارة، للحصول على معلومات مهمة لعملهم الصحفي. ولعل الكتاب الوحيد من الكتب الأفضل مبيعاً هذه الأيام في الولايات المتحدة، هو كتاب "جو كلاين"، ومع أنه غير محسوب على التيار اليميني، إلا أنه يتهم الساسة بأنهم يهتمون بالمحافظة على السلطة والنفوذ، بدلاً من تبني السياسات الصحيحة، والتي يمكن أن تحسِّن من صورة الولايات المتحدة، ونفوذها في الخارج، وبشكل إيجابي. وربما كان كتاب "جو باجينات": "صيد الغزلان مع السيد المسيح"، كتاباً بالفعل يستحق القراءة، لأنه كتاب ممتع ويحمل الكثير من الجمل الفكاهية في ثناياه. فهذا الكاتب الذي ولد وترعرع في ولاية فرجينيا الفقيرة، وتعلّم في مدن الساحل الشرقي، ثم عاد مرة أخرى إلى قريته "ويشستر" يقدم قراءة دقيقة لفقراء "أبلاشيا"، كيف يعيشون وكيف يفكرون، وكيف ولمن يدلون بأصواتهم في الانتخابات. وهو يرى أن هؤلاء الفقراء شبه الجهلة، هم الذين أوصلوا الرئيس (بوش) مرتين إلى سدّة الرئاسة، ويرى أنهم يمثلون طبقة سياسية تحاول أن تنسى أو تتناسى أوضاعها المعيشية بالانغماس في شرب الجعة، التي تمثل طعم هروب من الواقع ونمط حياة خاصاً كفيلاً بعلاج جميع مشاكلهم الاقتصادية والصحية. وتمثل هذه الطبقة جزءاً من الطبقات المحرومة في المجتمع الأميركي، وهي تفرِّق نفسها عن بقية الطبقات الوسطى والغنية، حيث إنها لم تتلقَّ إلا قدراً ضئيلاً من التعليم، وبالتالي فإن فرص الوظائف والترقي أمامها ضئيلة. ولذلك فإن الحرب الطبقية الأميركية، كما يقول، هي حرب ثقافية بين المثقفين والمتعلمين من جهة، وبين شبه الجهلة من جهة أخرى، وليست مثل الحروب الطبقية القديمة ذات الطابع الاقتصادي البحت. والحقيقة، أن كتب المحافظين والعسكريين السابقين التي يغرقون بها رفوف المكتبات ودُور بيع الكتب هذه الأيام، هي محاولة جريئة من قبل هؤلاء المُؤدْلجين للدفاع عن مواقف سياسية وحملات عسكرية فاشلة في العراق وغيره، طالما وقف منظِّرو هذا التيار يدافعون عنها منذ أكثر من عقد كامل. ويميل هؤلاء الكُتاب للدفاع عن هذه المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية، بإلقاء اللوم في إخفاقاتها ومغامراتها على العاملين فيها من موظفين غير مؤمنين بأهدافها ورسالتها، وبالتالي فهم يحاولون رفع اللوم والعتَب عن السياسيين الذين يوجهون هذه المؤسسات ويضعون سياساتها وبرامجها وخططها بناءً على معطيات إيديولوجية في الغالب.