تنطوي الكتابة التاريخية على خطر يتكرر باستمرار، لاسيما إذا كانت تتناول الحاضر وتسعى إلى تفسيره على ضوء أحداث وقعت في الماضي، من دون أن تفارق الراهن السياسي والاقتصادي. ولعل هذه الخطورة الكامنة في الكتابة التاريخية، هي ما دفعت "رامشاندرا جوها"، مؤلف الكتاب الذي نعرضه هنا إلى الجهر بتحذيره قائلاً "إن الذين يكتبون عن التاريخ المعاصر يدركون جيداً أنهم لا يخاطبون قارئاً سلبياً لنص متاح أمامه. فالقارئ هو أيضاً مواطن يتمتع بحس نقدي، وهو مدرك لميوله السياسية والأيديولوجية". لكن رغم استصعاب الكتابة عن التاريخ المعاصر، قرر الكاتب والمؤرخ الهندي "جوها" تأليف كتابه "الهند بعد غاندي: تاريخ أكبر ديمقراطية في العالم"، كعرض مفصل لأهم الوقائع التي حفلت بها الهند منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والواقع أن الهند ليست من البلدان التي يسهل الإحاطة بتفاصيلها، أو تعقب الحوادث التاريخية التي تحفل بها مسيرتها، لذا يقتصر الكاتب على تلك المحطات الأساسية في تاريخ الهند الحديث ذات الأثر البالغ في صياغة ملامح الشخصية الهندية. فمنذ عام 1950 وإلى غاية الثمانينيات على الأقل، ظلت الهند عالقة في مشاكلها الخاصة التي تشترك فيها مع معظم بلدان العالم الثالث. وفي هذا الإطار اعتاد المراقبون على الاستخفاف وأحياناً التندر بوتيرة النمو الهندية البطيئة، باعتبارها أحد أكثر النسب انخفاضاً في العالم، مرجعين ذلك إلى الرؤية الهندوسية للحياة القائمة على نوع من القدرية والرضا بما هو قائم. فليس الاحتجاج، أو التمرد على الأوضاع من الملامح المميزة للشخصية الهندية التي تبتعد عن الصدام وتفضل الخضوع لما تمليه الآلهة. لكن الهند فاجأت العالم بصعودها اللافت على الساحة الدولية بفضل اقتصاد متحرك أدى إلى انتشال ملايين الفقراء من براثن الفقر وبروز طبقة وسطى نشطة تنهض بدور فعال في الدفع بالعجلة الاقتصادية. وقد كان للإصلاحات الاقتصادية التي سارت الهند على خطها منذ بداية التسعينيات، أثر بالغ في انطلاقتها الأخيرة، بالإضافة إلى استثمارها في التعليم وتكوين الكوادر البشرية المؤهلة، مما ساهم في اجتذاب الشركات العالمية وتعاقدها مع الكفاءات الهندية. لكن "رامشاندرا جوها" الذي لا يخفي إعجابه بالإنجازات الاقتصادية المهمة التي حققتها بلاده خلال العقدين الأخيرين، ينتقل أيضاً إلى الحديث عن الجوانب السلبية في التاريخ الهندي المعاصر. وأول ما يبدأ به الحديث هو قيام الهند الحديثة ما بعد الاستقلال على يد السياسي والزعيم البارز "جواهرلال نهرو" الذي كان أول رئيس وزراء هندي حظي بشعبية واسعة ليس فقط داخل الهند، بل في جميع أنحاء العالم نظراً لدوره الكبير في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز. وأهم ما جاء به "نهرو"، حسب الكاتب، هو إيمانه الراسخ بالديمقراطية والعلمانية كوسيلتين ضروريتين لضمان وحدة الهند وتماسكها الاجتماعي. فقد حرص "نهرو" منذ توليه منصب رئاسة الحكومة على التأسيس لتقليد ديمقراطي ظل قائماً إلى غاية اللحظة تمثل في كفالة حق التصويت لكل مواطن هندي بصرف النظر على المستوى التعليمي، أو الدين، أو الطبقة الاجتماعية، وهو لهذا الغرض أشرف بنفسه على تنظيم أول انتخابات برلمانية في عام 1952. ويركز الكاتب على اللحظة الديمقراطية الأولى في تاريخ الهند باعتبارها نقطة البدء والمحطة التي أسست لتقليد ظل ملازماً للهند على امتداد السنوات الماضية. ورغم التعقيدات اللوجستية المرتبطة بشساعة الهند وتعدد ولاياتها، عرفت الانتخابات الأولى نجاحاً باهراً وأفرزت أول برلمان هندي منتخب لتستحق الهند بعدها لقب أكبر ديمقراطية في العالم بكل جدارة. وإذا كانت للهند أمراضها الاجتماعية ومشاكلها المتشعبة التي يشير إليها المؤلف في الكتاب مثل تفشي الفساد، والانتهازية السياسية، والفقر الذي مايزال يجثم على أنفاس شرائح واسعة من الهنود، إلا أنها استطاعت أن تحسم مع الشرط الديمقراطي، كما يقول الكاتب، للالتفات أكثر إلى التنمية الاقتصادية ومواجهة التحديات الاجتماعية. ويُفرد الكاتب حيزاً مهماً من كتابه للحديث عن لحظة أخرى مفصلية في تاريخ الهند متمثلة في صياغة الدستور الذي يعتبر أحد أفضل الدساتير في العالم وأكثرها عدلاً، لما تضمنه من حقوق سياسية ومدنية للمواطنين، فضلاً عن حريات عامة كثيرة تحسد عليها الهند. ولئن أسهب المؤلف في تعداد فضائل "نهرو"، باعتباره الأب المؤسس للمسار الديمقراطي في الهند، فإنه لا ينسى الإشارة إلى إخفاقاته السياسية، لاسيما الثقة العمياء التي وضعها في الصين وإيمانه المفرط بصداقتها مع الهند. فقد اهتزت صورة "نهرو" وتعرض لضربة قاسية عندما غزت الصين أجزاء من الأراضي الهندية في عام 1962، لذا لم يستطع "نهرو" النهوض بعد الصدمة التي تسببت فيها الصين ومات مكسورا في عام 1964. وبالطبع خلف "نهرو" وراءه فراغاً سياسياً في الهند وتطلب الأمر سنوات قبل أن تتمكن ابنته القوية "أنديرا غاندي" من تولي السلطة. لكن شتان ما بين الوالد بحكمته وحسه السياسي الرفيع الذي جعله يحظى باحترام العالم، وبين ابنته التي كشفت عن وجه بالغ القسوة والدهاء. فقد كانت "أنديرا غاندي" مسؤولة عن فرض حالة الطوارئ في الهند بين عامي 1975 و1977 علقت خلالها الانتخابات والحريات المدنية بغرض تعزيز موقعها السياسي وإخراس خصومها السياسيين الذين زجت بالكثير منهم في غياهب السجون. ويفرد الكتاب مساحة واسعة لأسرة "غاندي"، لدورها في السياسة الهندية، سلباً أو إيجاباً. فقد أدى اغتيال "أنديرا غاندي" عام 1984 إلى تدهور الأوضاع السياسية بعدما تقلد ابنها "راجيف" السلطة لكن لم يمهله القدر طويلاً، حيث لقي حتفه في انفجار انتحاري بعدها بسبع سنوات. زهير الكساب الكتاب: الهند بعد غاندي: تاريخ أكبر ديمقراطية في العالم المؤلف: رامشاندرا جوها الناشر: ماكميلان تاريخ النشر: 2007