في أعقاب نهاية فترة الحرب الباردة، لم تعد أكبر مهددات الأمن والاستقرار العالميين تنشأ من النزاعات بين القوى العظمى، وإنما تصدر عن دول أصغر بكثير، لكنها تنتهج سياسات تعبر عن رفضها وتمردها على المبادئ والقيم العامة للنظام الدولي. وهذا ما يناقشه الكتاب الذي نعرض اليوم، وهو من تأليف "روبرت آي. روتبرج"، مدير "برنامج النزاعات بين الدول ودرء النزاعات وحلها"، بكلية كنيدي لشؤون الحكم بجامعة هارفارد، ورئيس "المؤسسة الدولية للسلام". وبحكم طبيعة ومجال عمله، فقد صدرت للمؤلف كتب عديدة في هذا المجال، لعل أشهرها كتابه "فشل الدولة وضعفها في زمن الإرهاب". ومن أهم مواصفات الدول الخارجة عن القانون، كما يصفها المؤلف، ممارستها للقمع بحق مواطنيها، بالتلازم مع احتقارها لأبسط حقوق الإنسان، وتمردها على القانون الدولي والمعاهدات المتعلقة بحماية تلك الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين. فعلى سبيل المثال، تحتقر هذه الدول المعاهدة الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية، وغيرها. وبحكم القمع الداخلي الذي تمارسه الدول المارقة بحق مواطنيها، فهي تشكل كذلك تهديداً أمنياً على الصعيدين الدولي والإقليمي. وفي معرض حديثه عن التهديدات الأمنية من قِبلِ هذه الدول للسلم والاستقرار العالميين، فقد صنفها الكتاب في نوعين رئيسيين؛ الدولة العدوانية والدولة شديدة البطش. على أن الكاتب لم يكتف بهذا التصنيف العام فحسب، وإنما ذهب شوطاً أبعد في تبيان الخصائص العامة التي توحد بينها جميعاً كدول مارقة على القانون الدولي. وإذا ما نظرنا إلى أداء هذه الدول وممارستها للحكم في بلدانها، فهي في نظر الكاتب، تعد تجسيداً حياً ومؤسفاً لأعلى درجات السوء بلا منازع. أما من حيث التصنيف، فقد تراوحت درجات وألوان السوء المنسوب إليها من قبل الكاتب، وفق جدول بياني يتألف من عشر نقاط، تراوحت بين "السوء الكلي" و"السوء العالي" و"العدوانية"... إلى آخره. وبهذا الجهد البحثي النظري، سعى الكاتب إلى تحديد "مؤشر عام" يتم بموجبه قياس درجات السوء المنسوب للدول المقصودة. وبذلك تتوفر للدول المتحضرة وللمنظمة الدولية على حد سواء، وسيلة معينة لها على تشخيص أعراض السوء والمروق على القانون الدولي، حتى يمكن التصدي لواجب الحد من درجات القهر والقمع الممارسين بحق مواطني الدول النامية، فضلاً عن العمل وفق مؤشر واضح في التصدي للخطر الجدي الذي تمثله هذه الدول للأمن والسلم العالميين. ذلك أن من أهم الصفات المميزة للدول المارقة، وبصرف النظر عن التفاوت النسبي بينها من حيث درجات السوء، اتفاقها على انتهاك القيم الإنسانية المتحضرة، وميلها المستمر إلى ممارسة البربرية والوحشية، وافتراسها لمواطنيها قبل افتراسها واعتدائها على قيم الحضارة الإنسانية كلها. غير أن الكاتب يرى أن هناك استخداماً "سائباً" لمصطلح "الدولة المارقة" شاع استخدامه بين دوائر المحللين وصانعي السياسات والقرارات مؤخراً، بحيث يجمع المفهوم كافة الدول القمعية من دون استثناء. والصحيح في نظره أن يدخر مفهوم الدولة المارقة ليتم تطبيقه على تلك التي يتطابق نهجها ونهج دولتين اثنتين فحسب، هما كوريا الشمالية وإيران، لكونهما تجمعان بين صفات أقصى درجات السوء في التعامل مع مواطنيهما وقمعهم بلا رحمة أو هوادة، إلى جانب ما تمثله كلتاهما من تهديد جدي لأمن وسلام العالم. وشمل هذا التصنيف إحدى الدول العربية، إضافة إلي بيلاروسيا، لكونهما تجمعان بين القمع الوحشي الداخلي للمواطنين، إضافة إلى نهجهما العدواني إزاء بقية دول العالم الأخرى، بما فيها دول الجوار الإقليمي. وعلى سبيل المقارنة، فإن من رأي الكاتب أن بيونج يانج لا تتوانى عن تصدير أسلحة الدمار الشامل التي لا يستبعد أن تجد طريقها إلى الإرهابيين بطريقة أو بأخرى، كما يرى أن بيلاروسيا تنشط في تصدير الأسلحة والمخدرات، في حين تدعم الدولة العربية المارقة المشار إليها، الأنشطة والجماعات الإرهابية في المنطقة. غير أن القائمة شملت دولاً أخرى لم تصنف باعتبارها دولاً مارقة، وإن رماها الكاتب بكونها دولاً مغالية في درجات البطش والقمع الداخليين. وتأتي في القائمة الأخيرة كل من بورما وزيمبابوي وتوجو وغينيا الاستوائية، إضافة إلى دولة عربية أخرى في شمال أفريقيا. ثم يمضي المؤلف خطوة أخرى في دراسته، ليقف على طبيعة القمع الذي تمارسه مجموعة الدول هذه. وبحكم التعريف والمنطق، فإن كافة الدول القمعية المذكورة تمارس درجات عالية من البطش بحق مواطنيها، بل تفترسهم افتراساً في واقع الأمر، بحرمانهم من كافة أو غالب حقوقهم وحرياتهم المدنية، إلى جانب انتهاكها لكل القيم والأعراف المتحضرة. ومما تتسم به الدول عينها، الهزء بالممارسة الديمقراطية وتحويلها إلى مجرد لعبة شكلية خاوية من محتواها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وبحكم قبضتها الباطشة، تعادي هذه الدول من حيث المبدأ، التفرد والتميز، وتعمل على فرض الطاعة المطلقة على مواطنيها، بما في ذلك طاعتهم لنزوات الحاكم وأمزجته المتقلبة. وفوق ذلك كله، فإنه يستحيل من الناحية العملية سريان كل هذا القمع في ظل سيادة القانون واحترام الحقوق والحريات التي يكفلها للمواطنين. وعليه فإن الخطوة الضرورية التي تخطوها هذه الأنظمة الباطشة، هي إحلال قانون الغاب محل التشريعات والقوانين اللائقة بالإنسان. وكل هذه الانتهاكات هي ما يتعين على المجتمع الدولي التصدي له والسعي من أجل الحد من جموحه على الأقل، باستخدام مؤشرات السوء والقمع التي توصل إليها الكاتب، وغيرها من المقاييس الأخرى التي يمكن تطويرها في إطار التصدي لهذا الخطر. عبد الجبار عبدالله الكتاب: أقاصي السوء: التصدي لخطر الدول القمعية والمارقة المؤلف: روبرت آي. روتبرج الناشر: مطبعة مؤسسة بروكنجز تاريخ النشر: أغسطس 2007