"زولتان باراني" أستاذ جامعي مرموق يعد من أفضل من كتبوا عن سياسات ما بعد الشيوعية، وأكثرهم عمقاً وشمولاً. وفي كتابه:" الانهيار الديمقراطي وأفول العسكرية الروسية"، يقدم لنا باراني عرضاً شديد الجاذبية والعمق لموضوع العلاقة بين أوضاع المؤسسة العسكرية في روسيا وبين شخصية النظام السياسي الروسي في فترة ما بعد الشيوعية. ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول تحمل العناوين التالية: مأساة ورمزية غرق الغواصة النووية "كورسك"، تقييم التحلل: المؤسسة العسكرية السوفييتية/الروسية خلال الفترة بين 1985 و2006، شرح الوجود السياسي للمؤسسة العسكرية الروسية، الإصلاحات الدفاعية الخادعة، العلاقات المدنية –العسكرية، وأخيراً تنامي دور مؤسسة الرئاسة. يبدأ المؤلف كتابه بكارثة غرق الغواصة النووية "كورسك" عام 2000 والتي مات فيها 118 عشر بحاراً، في كارثة كشفت المستوى المتدني الذي وصلت إليه فعالية وكفاءة القوات المسلحة الروسية بشكل عام، مما تبدى في طول الفترة التي استغرقتها السلطات العسكرية المسؤولة في اكتشاف الكارثة التي حلت بالغواصة، وطول الفترة التي استغرقتها كي تحدد مكانها وتصل إليه، ثم طول الفترة التي استغرقتها عمليات الإنقاذ التي اتسمت بالقصور الشديد. في الفصل التالي يكشف المؤلف عن أسباب التحلل الذي وصلت إليه القوات المسلحة الروسية، ومن ذلك مثلاً ضعف الإنفاق على المؤسسة العسكرية، وكيف أن ذلك التدهور لم يدفع الحكومة الروسية إلى تنفيذ الإصلاحات الدفاعية المقترحة رغم أن تلك الإصلاحات كانت تحتل أولوية قصوى على أجندة الإصلاح في الحقبة السوفييتية، بل اكتفت بإجراء إصلاحات سطحية لم تمس الجوهر. أما تنامي نفوذ العسكريين في المؤسسة السياسية الروسية، فيرجعه المؤلف إلى ثلاثة أسباب الأول: هو ذلك القرار الذي اتخذه ميخائيل جورباتشوف بالسماح للعسكريين السوفييت بالمساهمة في الشأن السياسي. والثاني خضوع الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين لضغوط فرضت عليه نظاماً سياسياً جديداً يمنح العسكريين نفوذاً كبيراً ويضفي الشرعية على تواجدهم في المجال السياسي. والثالث: هو ما قام به فلاديمير بوتين بعد أن صعد إلى سدة السلطة خلفاً ليلتسين عندما رقّى بعض الجنرالات إلى مناصب مهمة في الإدارة الفيدرالية للبلاد، إذ أدى إلى نوع من التوتر بين الساسة المدنيين والجنرالات، حيث رأى الساسة أن الجنرالات يتدخلون فيما لا يعنيهم، بل ويحاولون الحصول على صلاحيات أكثر من الممنوحة لهم، وذلك شبيه على غرار ما يحدث في بلدان أخرى تحكمها أنظمة سلطوية. وفي هذا الجزء من الكتاب تحديداً يظهر المؤلف درجة عالية من الحرفية، إذ يقدم عرضاً شاملاً لدور المؤسسة العسكرية في سياسات الدول السلطوية، وكيف أن ذلك قد أصبح سمة من سمات الدولة الروسية التي خيبت التوقعات الديمقراطية المعقودة عليها في عهد يلتسين، وتحولت مع فلاديمير بوتين إلى دولة تخلت تدريجياً عن الإصلاحات الديمقراطية، وبدأت تتجه بشكل تدريجي نحو السلطوية. ويشدد المؤلف في هذا الجزء على حقيقة أن الوسيلة الوحيدة لحماية البلاد هي تحديد الأدوار المنوطة بالسلطات الثلاث على نحو دقيق وكذلك تحديد الخط الفاصل بين دور المؤسسة العسكرية وبين دور الإدارة المدنية للبلاد. ويرى أن فترة حكم بوتين لم تكن -كما توقع الخبراء والمراقبون الغربيون- امتداداً للمرحلة الانتقالية التي بدأت في عهد يلتسين والتي كانت تتجه نحو الديمقراطية والليبرالية، وإنما شكلت انقلاباً أو عودة إلى نظام الدولة ذات الطبيعة السلطوية على النحو الذي كان قائماً إبان فترة الاتحاد السوفييتي السابق. ليس هذا فحسب بل أصبح هناك نوع من التوجه غير المعلن -وإن كان لا يخفى على عين المدقق -نحو تغير المسار الذي كانت قد بدأته الدولة في فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي للاندماج في المنظومة الغربية. ويشرح المؤلف الآلية التي اتبعتها مؤسسة الرئاسة الروسية تحت حكم بوتين في تعزيز قبضتها على مقدرات الدولة والمجتمع الروسيين، وكيف استخدم بوتين حرب الشيشان التي كانت سبباً رئيسياً في مجيئه إلى السلطة في تعزيز قبضته، من خلال قيامه بفرض مجموعة كبيرة من الإجراءات والسياسات الأمنية والقمعية بدعوى أن ظروف الحرب تستلزم ذلك، وخصوصاً على أثر الهجمات التي شنها المقاتلون الشيشان، مثل الهجوم على مدرسة "بيسلان" في جنوب البلاد، والهجوم على أحد المسارح في العاصمة الروسية موسكو، وهما هجومان انتهى كل منهما بمجزرة مروعة، إذ كانت السلطات الروسية حريصة على إعطاء الانطباع بأنها دولة ذات قوة باطشة. في نهاية الكتاب يعود المؤلف مرة أخرى للتأكيد على أهمية الفصل بين السلطات، وعلى أهمية معرفة كل سلطة لحدود دورها، باعتبار أن ذلك يمثل ضمانة مهمة للتحول الديمقراطي، ومن دونه فإن المجتمع سوف ينحدر نحو السلطوية أو نحو مزيد منها على النحو الذي نراه الآن في روسيا. وفي نهاية هذا العرض، نقول إن هذا الكتاب بما يتسم به من شمول وعمق، يستحق أن يحتل مكانه متميزة باعتباره واحداً من أفضل الكتب التي تناولت أحوال روسيا في حقبة ما بعد الشيوعية، وباعتباره كتاباً لا غنى عنه لصناع السياسة الروسية والمهتمين بدراسة شؤون هذه الدولة، سواء في الحقل الأكاديمي أو خارجه. سعيد كامل الكتاب: الانهيار الديمقراطي وانحدار العسكرية الروسية المؤلف: زولتان باراني الناشر: برينستون يونيفرستي برس تاريخ النشر: 2007