بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك وانتهاء الحرب العالمية الثانية، سمحت الدولة التركية بتشكيل الأحزاب، فتقدم الإسلاميون عام 1970 بتأسيس "حزب النظام الوطني"، وجاء في بيان التأسيس الآتي: "إن أمتنا العظيمة التي هي امتداد لأولئك الفاتحين الذين قهروا الجيوش الصليبية قبل ألف سنة، والذين فتحوا اسطنبول قبل 500 سنة، أولئك الذي قرعوا أبواب فيينا قبل 400 سنة، وخاضوا حرب الاستقلال قبل خمسين سنة... هذه الأمة العريقة تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها، وتجدد عهدها وقوتها مع حزبها الأصيل. إن حزب النظام الوطني سيعيد لأمتنا مجدها التليد، الأمة تملك رصيداً هائلاً من الأخلاق والفضائل يضاف إلى رصيدها التاريخي وإلى رصيدها الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه". وبعد هذا البيان والمواجهات الحادة التي حدثت بين الإسلام والعلمانية في تركيا، ظهر "نجم الدين أربكان"، الأب الروحي للحركة الإسلامية في تركيا ليقول: "إن أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام، وليس أمامنا إلا العمل معاً يداً واحدة، لنعيد تركيا إلى سيرتها الأولى". هذه الكلمات التي جاءت في بيان "حزب النظام الوطني"، وأيضاً ما تحدث عنه أربكان مع بداية النشاط الحزبي للحركة الإسلامية، أصبح اليوم واقعاً حقيقياً في تركيا، رغم حالة الاستئصال الطويلة التي كرسها أتاتورك بالقوة ضد الهوية الإسلامية لتركيا. وأهم ما في هذه الرؤية التي اصطدمت منذ البداية بإشكاليات عديدة، الجيش والعلمانية التركية، إلى درجة دفعت أربكان إلى العمل على تشكيل أحزاب أخرى بديلة بعد وقف "حزب النظام الوطني"؛ مثل حزب "الرفاه" ثم "الفضيلة" وأخيراً "السعادة"، بسبب الإلغاء الحكومي المستمر للأحزاب الإسلامية. إنها ارتبطت بفكرة تحويل تركيا إلى دولة صناعية مستقلة تستند بقوة إلى هويتها التاريخية والثقافية، وبالمساواة مع الدول الصناعية الكبرى. والأهم هو أن مشروع أربكان الكبير الخاص بـ"مجموعة الثماني الإسلامية الكبرى"، والذي يدعو إلى إقامة اتحاد بين الدول الثماني الإسلامية الرئيسية (تركيا -مصر -إيران -نيجيريا -باكستان -أندونيسيا -بنجلاديش -ماليزيا)، وهو بهذا الفكر كان يسعى إلى تأسيس اقتصاد إسلامي يعتمد الفكر الصناعي والبحثي كأساس في بنيته وبنائه الشامل، بحيث يلعب دوراً مؤثراً في تغيير معادلة القرار السياسي الخاص بالعالم الإسلامي، لفك قيود الهيمنة الرأسمالية الغربية على العالم الإسلامي، وإخراج الدول الإسلامية بقوة من أسر هذه الهيمنة الطويلة، بحيث تصبح قادرة على أن تستقل برأيها وقراراتها. ورغم أن هذا المشروع المهم تعثر بسبب شعور الغرب بخطورته على مصالحه، إلا أن النجاح الكبير الذي حققه مؤخراً "حزب العدالة والتنمية" بقيادة رجب طيب أردوجان، تلميذ أربكان وأحد قيادات حزب "الفضيلة" السابق، يعد تأكيداً واضحاً على أن مسيرة الإسلام في تركيا قادرة على منافسة خصومها العلمانيين والانتصار عليهم، لأنها تملك كل أدوات النجاح الخاصة بالمشروع الحضاري. قد يكون التوجه الذي اتخذه "حزب العدالة والتنمية" بعد انفصال قادته عن حزب "الفضيلة"، يختلف عن مشروع نجم الدين أربكان، إلا أنه في النهاية يعد نجاحاً كبيراً للإسلام في تركيا، حيث أن النهج المتوازن الذي اتخذه "حزب العدالة والتنمية" منذ البداية، لعب دوراً مؤثراً في تغيير واقع الإسلام في تركيا وحصول الحزب على هذا النجاح الذي يبرز بصورة واضحة في النموذج الذي قدمه من خلال الرؤية الإسلامية المعتدلة، والصدق في مصالحة الواقع، والحكمة في التعامل مع الإشكاليات السياسية التي تحيط بتركيا، ومستوى النجاح الاقتصادي الذي شعر به المواطن التركي وخاصة في موضوع تجنب الصدام مع كل الأطراف الداخلية والخارجية.