لو نجحت خطة الرئيس الأميركي جورج بوش الخاصة بتحقيق النصر المؤزر في العراق، أثناء غزوه له في عام 2003، لكان قد تحول ذلك البلد اليوم إلى دولة ديمقراطية علمانية موالية للغرب، فضلاً عن كونه دولة مستقرة موحدة ومزدهرة، لا تشكل تهديداً أمنياً لجيرانها، بل قادرة على لعب دور إيجابي بنّاء في حفز استقرار الأمن على النطاق الإقليمي كله. وإلى ذلك فقد علِّقت آمال كبيرة على أن يكون العراق الجديد، صرحاً للتحول السياسي الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وأن يتمكن من إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل، مساعداً بذلك في تهيئة الأجواء والمناخ الملائم لوضع حد للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي. لكن بدلاً من ذلك التصور الحالم، وجدت الولايات المتحدة نفسها في منزلق لا قرار له من العنف المصاحب للدولة الفاشلة، ما كبدها خسائر مالية وبشرية فادحة في حربها هذه، من دون أن تتوفر لها بعد استراتيجية واضحة للخروج من ذلك المأزق. وبالنتيجة فقد برزت إيران، وليست الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى في المنطقة. ومع ذلك فما أضعف الأمل في أن تتقدم إيران ولو على مسافة شبر واحد فحسب، نحو حل المشكلات التي يعانيها العراق، في مقابل الفشل الذي تحصده واشنطن في حربها الجارية على بلاد الرافدين. وعليه فإنه من الواجب فهم القرار الأخير الذي اتخذته إدارة بوش ببيع أسلحة أميركية لكل من مصر وإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي، تصل قيمتها إلى ما يقدر بنحو 63 مليار دولار خلال العقد المقبل، على ضوء تلك الخلفية الأمنية السياسية الإقليمية. ورغم أن التفاصيل الكاملة لهذه الصفقة لم يكشف عنها بعد، إلا أنه من المرجح أن تشمل ترسانة من أحدث وآخر منتجات التكنولوجيا الحربية الأميركية، بما فيها الطائرات المقاتلة المتطورة، ونظم الدفاع الجوي، إضافة إلى جيل حديث من نظم تدقيق إصابة الهدف، بما فيها صواريخ وقنابل جو-أرض. أما القرار الخاص بزيادة المساعدة الحربية المقدمة لتل أبيب، فقد قصد منه جزئياً جعل مشروع بيع الأسلحة لدول مجلس التعاون الخليجي، مقبولاً نوعاً ما في نظر الكونجرس الذي سعى من قبل للحيلولة دون بيع أسلحة بعينها للدول العربية. أما زيادة العون العسكري المقدم لمصر، فقد جاءت مصاحبة لزيادة المساعدات ذاتها المقدمة لإسرائيل، على أساس الفهم القائم على الرباط الوثيق الذي يربط بين هذه المساعدات، منذ إبرام معاهدة السلام المصرية -الإسرائيلية في عام 1978. وبقي لنا أن نرى حجم الجدال السياسي المتوقع لصفقة بيع الأسلحة هذه أن تثيره في أروقة صنع السياسات والقرارات في واشنطن. هذا وسوف تستمر عطلة الكونجرس الصيفية حتى بداية شهر سبتمبر المقبل، وهو الموعد الذي يفترض أن تحيل فيه الإدارة تفاصيل الصفقة هذه إلى شتى لجان الكونجرس المتخصصة في المجال الدفاعي الحربي. وعلى سبيل المثال، فقد أعرب بعض أعضاء الكونجرس، المعروفين بشدة ولائهم لإسرائيل، عن معارضتهم سلفاً لخطة بيع الأسلحة لدول مجلس التعاون الخليجي. غير أنه لا يتوقع لهؤلاء أن يؤمِّنوا ما يكفي من الأصوات اللازمة لقفل الطريق أمام هذا البرنامج، أو أن تكون لهم الأصوات الكافية لممارسة حق النقض "الفيتو" على قرار الرئيس بوش. وفي مقابل القرار الذي اتخذته الإدارة بإبرام الصفقة المذكورة، تأمل واشنطن في أن تزيد دول مجلس التعاون الخليجي، وبخاصة المملكة العربية السعودية، من دعمها الحالي لحكومة نوري المالكي، والتي تواصل كفاحها من أجل البقاء في بغداد. ومهما يكن، فإن صفقة بيع الأسلحة هذه، إنما تشير إلى عودة إدارة بوش إلى ذات النهج الذي سلكته الإدارات الأميركية السابقة، وهو النهج الذي يسلط الجهود على التعاون الاستراتيجي مع الدول العربية غير المتشددة، بدلاً من تبني مشروعات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي فيها، على نحو ما فعلت إدارة بوش في بادئ الأمر. وفي منحى التحول نفسه، فقد أرغمت حقائق الوضع الميداني على الأرض العراقية، وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، على التراجع لتدلي بأحد أكثر تصريحاتها شهرة وتداولاً حول أن سياسات بلادها الشرق أوسطية، كانت خاطئة فيما مضى. ففي الثلاثين من يونيو من عام 2005، وخلال كلمة لها ألقتها بمقر الجامعة الأميركية في القاهرة، قالت رايس:"على امتداد 60 عاماً، ظلت الولايات المتحدة الأميركية تواصل السعي من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، بيد أننا لم نحقق أياً منهما في واقع الأمر. وبالنتيجة فقد غاب كلاهما عن المنطقة، لتصل إلى ما هي عليه الآن من اضطرابات وعنف وعدم استقرار". واستطردت رايس في الكلمة نفسها لتقول: "بيد أننا بدأنا نسلك طريقاً مختلفاً الآن. فها نحن ندعم التطلعات الديمقراطية لكافة الشعوب". لكن بعد مرور عامين فحسب على ذلك التاريخ، تم استبدال أجندة التحول الديمقراطي التي تبنتها الإدارة فيما مضى، بنهج وأساليب الدبلوماسية الأميركية التقليدية، بما فيها بيع الأسلحة للحلفاء الإقليميين، على أمل ألا تعم دائرة العنف المتفشي في العراق، بقية أنحاء الشرق الأوسط المستقرة نسبياً. وعلى أية حال، فليس ثمة ضمانات لأن يؤدي بيع مزيد من الأسلحة الأميركية إلى مزيد من الاستقرار الإقليمي. لكن عندما نأخذ في الاعتبار الفشل المتكرر للسياسات الأميركية المتبعة في العراق، مع تنامي حاجة واشنطن أكثر من أي وقت مضى، إلى تعزيز علاقات التعاون الأمني العسكري بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجي، بما يخدم ضمان أمن واستقرار هذه المنطقة بالذات، فإن صفقة الأسلحة المذكورة، تعد مكوناً رئيسياً من مكونات الحقائق الاستراتيجية الجديدة المتجسدة على الأرض، وهي الحقائق التي عادت إليها واشنطن في نهاية الأمر.