في ذكرى إلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين نوويتين على اليابان (6 و10 أغسطس 1945)، تُطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كان إلقاء القنبلتين كان ضرورياً بالفعل لإنهاء الحرب. كما تطرح أسئلة كثيرة أخرى حول ما إذا كان قصف اليابان لم يكن مقصوداً لذاته فقط، أو أنه كان يشكل رسالة سياسية أميركية إلى الكرملين، وبالتالي حول ما إذا كان ذلك العمل الإرهابي المروِّع هو البداية الأولى للحرب الباردة التي استمرت نصف قرن تقريباً. فاليابان كانت في حال انهيار وعلى مشارف الاستسلام قبل إلقاء القنبلتين عليها. ولذلك لم يأتِ استسلامها نتيجة للقصف النووي، كما تؤكد اليوم وثائق أميركية رسمية. فمن الثابت تاريخياً أن الرئيس الأميركي هاري ترومان لم يكن يحتاج إلى استخدام القنبلة النووية لإخضاع اليابان وإلى حملها على الاستسلام، بقدر حاجته إلى تخويف الاتحاد السوفييتي، الذي بدأ وقتها يوظف انتصاره في الحرب لنشر مبادئه الشيوعية في العالم. فقد جرت أول تجربة ناجحة للقنبلة الأميركية في 16 يوليو 1945. وفي اليوم التالي كان ترومان مجتمعاً في بوتسدام مع ستالين وتشرشل. يروي اللورد "ألن بروك" رئيس أركان القوات البريطانية في ذلك الوقت في مذكراته أن تشرشل فوجئ باللهجة الفوقية، وبالتصرُّف الاستعدائي، وبالخطاب المستفز الذي استخدمه الرئيس الأميركي. فقد تعالى الرئيس ترومان على الرئيس السوفييتي ستالين، وتوجه إليه بطلبات مستحيلة لم تكن منتظرة ولا مبررة. ولم يفهم تشرشل هذا التحول في الأسلوب التفاوضي لترومان إلا في اليوم التالي، عندما عرف بنجاح التجربة النووية الأميركية. وتكشف الوثائق الأميركية الرسمية أيضاً أن وزير الخارجية الأميركية بيرنز أبلغ الرئيس ترومان "بأن القنبلة النووية ستضع الولايات المتحدة في موقف قوي يمكِّنها من إملاء شروطها لإنهاء الحرب". كذلك يروي العالم النووي الأميركي "لي زيلارد" في مذكراته التي نشرها بعنوان: "التاريخ الشخصي للقنبلة النووية"، أن الوزير بيرنز اجتمع به في البيض الأبيض، وأنه أثناء الاجتماع لم يثر بيرنز ما إذا كان استخدام القنبلة ضد المدن اليابانية ضرورياً لكسب الحرب، ولكنه كان يؤكد على أن "امتلاكنا للقنبلة وإظهار فعاليتها، سيجعل الاتحاد السوفييتي أكثر طواعية في أوروبا". في ذلك الوقت لم تكن هناك محطات تلفزيونية فضائية تلغي مسافات المعرفة بين قارات العالم ودوله، ومع ذلك استُخدم الإعلام على أوسع نطاق لإقناع الرأي العام الأميركي بأن استخدام القنبلة كان ضرورياً لتسريع إنهاء الحرب، وأن ذلك يوفر على الولايات المتحدة أكثر من مليون قتيل!! ولكن إذا كان الهدف من وراء استخدام القنبلة النووية الأميركية هو تخويف ستالين، فإن الرئيس السوفييتي الأسبق لم يخَفْ، أو لعله تجاوز مخاوفه، إذ أنه استطاع أن يسيطر على أوروبا الشرقية كلها. كما استطاع أن يحتلّ ثلاثاً من الجزر اليابانية (ولا تزال هذه الجزر حتى اليوم تحت السيطرة الروسية). إذا كانت هذه هي خلفية القرار بقصف اليابان نووياً، فلماذا لا تخضع الولايات المتحدة إلى المساءلة وإلى المحاسبة الدوليتين؟ يقول الأديب الألماني برتولد بريخت: "إن إسقاط القنبلة الذرية (على هيروشيما ثم على نكازاكي) كان سقوطاً مريعاً لآدمية العلماء، وكان فشلاً ذريعاً لأخلاقية السياسيين". حتى أن العالِم الأميركي -الألماني الأصل- يوليوس روبرت أوبنهايمر الذي كان مسؤولاً عن فريق العلماء الذين أنتجوا القنبلة الذرية في "لوس آلاموس" في الولايات المتحدة اضطر إلى الإقرار بأن "العلماء تعرَّفوا على الخطيئة الكبرى في عمق مكوناتها، ولكنهم وبعد أن مارسوها لن يتوقفوا عن استخدامها". وبالفعل فإن الولايات المتحدة تستطيع وحدها الآن، بما تملكه من قوة تدميرية هائلة أن تقتل كل إنسان على سطح الأرض أكثر من تسع مرات. والمفارقة أن ترسانتها الحربية في تطور وفي تضخم متواصلين، بفعل سقوط آدمية العلماء.. وفشل أخلاقية السياسيين. ومع ذلك، لم تخضع الولايات المتحدة إلى مساءلة أخلاقية أو محاسبة سياسية. حدث ذلك أيضاً بعد الحرب على كوريا، ثم بعد الحرب على فيتنام، ويحدث الآن بعد الحرب على العراق، حيث قضى حوالى المليون عراقي وشُرِّد حوالى ثلاثة ملايين، منهم مليونان في سوريا والأردن وحدهما. كذلك فإن الحرب على أفغانستان، وإن كانت تتواصل باسم حلف شمال الأطلسي وبمشاركة قوات من دول الحلف، إلا أن قرار الحرب كان قراراً أميركياً، وإدارة العمليات العسكرية تتولاها القيادة الأميركية. أما الضحايا من الأفغان فبالمئات شهرياً. لقد أُخضع رموز النازية الألمانية إلى المحاكمة التي جرت في نورمبرغ بألمانيا. كانوا يستحقون بالتأكيد المحاكمة والعقاب، ليس فقط لأنهم كانوا مجرمي حرب، ولكن لأنهم خسروا الحرب أيضاً. فلو أنهم ربحوا الحرب لكانت الصورة عكسية تماماً. وما يحدث في العراق وأفغانستان لم يؤدِّ حتى الآن إلى خسارة الولايات المتحدة للحرب وبالتالي لم يقم منتصر(!) ليحاكم الولايات المتحدة على انتهاكاتها المروعة من "أبو غريب" إلى غوانتانامو. فالولايات المتحدة (الرأي العام) تحاكم نفسها (إدارة الرئيس بوش)، بل إنها تجاوزت المحاكمة إلى الإدانة الذاتية. فعلى مدى 216 يوماً، حوكم 22 من متهمي نورمبرغ، وحكم على 12 بالإعدام. وعلى رغم أن بعضهم تذرع بأنه لم يكن صاحب قرار بل مجرد منفذ له، فإن المحكمة لم تمنح أياً منهم سبباً تخفيفياً. وذلك على قاعدة أخلاقية سامية أرساها المدعي العام في المحاكمة القاضي البريطاني هاترلي شوكروس (الذي مات عن عمر 101 سنوات في 10 يوليو 2005). وتقول هذه القاعدة : "لابد أن يجد الإنسان نفسه في مرحلة ما مضطراً لرفض أوامر رئيسه، إذا كان عليه أن يستجيب إلى نداء ضميره". غير أن هذه القاعدة السليمة لم تطبق على قائد فريق إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما توماس فيربي الذي نفذ أوامر الرئيس هاري ترومان، ولا على قائد الطائرة بول تيبتس. بل على العكس من ذلك فقد اعتُبرا بطلين قوميين في الولايات المتحدة. ولم تنفَّذ هذه القاعدة الأخلاقية- الحقوقية أيضاً على عناصر القوات الأميركية التي ارتكبت مجزرة "ماي لين" الشهيرة في فيتنام. كما أنها لم تطبَّق على عناصر القوات الإسرائيلية التي ارتكبت مجزرة قانا في جنوب لبنان في عام 1994 ثم في عام 2005، ولا على الجنرال شارون مرتكب مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982. ولا تزال الجرائم الجماعية التي ارتُكبت وتُرتكب في العراق وأفغانستان بعيدة عن أي شكل من أشكال المحاسبة. ثم إن ردود الفعل على هذه الأعمال التي تتخذ أشكالاً إرهابية، والتي غالباً ما تنفذ باسم الدين الإسلامي، تسيء إلى الإسلام كما تسيء إلى الإنسان. وهنا أيضاً لا تجري محاسبة هؤلاء الإرهابيين حتى لا تبدو محاسبتهم وكأنها تبرر الأخطاء والجرائم التي كانت في الأساس الحافز وراء تحركهم. ومن هنا فإن إصرار الولايات المتحدة على أن يبقى مواطنوها خارج المساءلة وفوق نصوص معاهدة روما الدولية المتعلقة بمحاكمة مجرمي الحرب، ليس جديداً. ونجاحها في انتزاع موافقة العديد من دول العالم على هذا الاستثناء ليس جديداً أيضاً. ذلك أن من لم يقتنع منها بالجزرة.. اقتنع بالعصا.. أو حتى بمجرد التهديد بها. وما "النظام العالمي الجديد" الذي تبدو معالمه الجديدة في العراق وأفغانستان، سوى استمرار لمرحلة ما بعد هيروشيما وناكازاكي، حيث بدأت عملية "انهيار آدمية العلماء.. وأخلاقية السياسيين"!!.