تحدثنا في مقال الأسبوع الماضي عن مخاطر الخلل في التركيبة السكانية، وكان الطرح بصورة عامة ودون التوقف المتعمق عند عناصر الخطر الأساسية، ونحاول اليوم، تخصيص المساحة المتاحة لواحد من هذه المخاطر التي تتهدد بنية المجتمع بكل ما تنطوي عليه من مكونات وعناصر أولية، لنتعرف على تفاصيل هذه البنية من جهة، ومعرفة طبيعة الخلل الذي يهددها من جهة ثانية، ومحاولة تشخيص الدواء الشافي لهذا المرض العضال من جهة ثالثة. بدأت قصة الخلل تحديداً مع قصة ظهور النفط واستثماره وما ترتب عليه من احتياجات تتطلبها التنمية، وبدأت رقعة الخلل تتسع بالشكل المرَضيّ مع اتساع عملية التنمية الاقتصادية، والاكتفاء بهذا النمط من التنمية المحصورة في مجالات محدودة، فكانت الحاجة الكبيرة إلى أصحاب المهارات والخبرات والأيدي العاملة من الوافدين، ثم توسعت باتجاه النمط الخدماتي والاستهلاكي. واستمرت الحاجة في التوسع والتعمق بسبب عدم قدرة عملية التنمية وبعض القائمين عليها في استغلال الطاقات المحلية وتفجير إمكانيات المواطنين، وقد تم ذلك دون اعتبار لما يتركه ذلك من خلل وآثار سلبية على المجتمع.. وكان الهدف المتمثل في تطوير البلاد وتنميتها قد ضاع وسط النجاحات الكبرى على صعيد الاستثمار والارتقاء بالبنية العقارية والخدمية، وضاع هدف تنمية المجتمع والإنسان في خضم مضاربات وأسواق مفتوحة بلا حدود، وضمن شروط العولمة التي لا تراعي القيم الإنسانية. في ظل ذلك كله كان الإنسان الإماراتي يجد نفسه غريباً عما يجري حوله، وكان هذا الاغتراب أول مظاهر الخلل في علاقة المواطن بوطنه، والخلل في علاقة الإنسان الفرد بالمجتمع الذي راح يزداد انفتاحاً بلا حساب، الأمر الذي جعل حضور المواطن في وطنه حضوراً هامشياً ومعزولاً وبلا تأثير حقيقي، ولعل أكثر من عبّر عن هذا الشكل من الغربة والاغتراب هم الأدباء والمبدعون الذين راحوا يستحضرون المواجهة القائمة بين حياة البحر والغوص واللؤلؤ من جهة، وحياة الأبراج والأضواء والبهْرجة من جهة مقابلة. الخلل يبدأ من الظروف الاقتصادية التي قامت في سياق محاولات التطوير والتنمية، ولكن لأن التنمية جرت بطريقة ركزت على تنمية المال والاستثمار، وأهملت الإنسان والمجتمع، وهمَّشت العادات والتقاليد، بل جاءت على حساب الهوية الأصيلة للبلاد، فقد كان مردودها سلبياً، ولم تثمر تنمية حقيقية كما هو الهدف منها، بل إن ما جرى هو تنمية مشوَّهة، وكانت هذه التنمية هي السبب الأول في تشويه البنية الاجتماعية التي تضم التركيبة السكانية. والسؤال الأساسي هنا هو: هل كنا في حاجة إلى كل هذه الأيدي العاملة الوافدة، في كل مجالات الحياة، حتى ننجز تنمية حقيقية وشاملة؟ وهل يمكن لأي تنمية شاملة أن تتم بالعمالة الوافدة فقط، وبتهميش جهود وطاقات المواطنين؟ وكيف وصلنا إلى حد أن تجد غالبية المساهمين في الخدمات من الوافدين، في غياب للمواطن غير مفهوم؟ وهل نحن في حاجة إلى هذا العدد من الفتيات والنساء العاملات في السوق تحت غطاء "السياحة"، في حين أنهن يشكلن مشكلة كبيرة تهدد المجتمع؟ وماذا بخصوص العدد الهائل من العاملين والعاملات في المنازل بمهن مختلفة؟ هذا كله مما يتم في سياقات يقال إنها جزء من عملية التنمية، لكنه في الحقيقة مما يهدد التنمية الحقيقية، ويمنع تحقُّقها، وهو ما يتطلب إعادة نظر معمقة وسريعة في هذه التفاصيل كلها، كنقطة انطلاق لمعالجة الخلل في التركيبة السكانية، فلو استطعنا تأهيل المواطنين للمهن المختلفة، لما كنا مضطرين لـ"استيراد" هذه الأيدي العاملة الوافدة. ومن هنا تأتي مسألة التأهيل للمواطن كمرحلة انطلاق أساسية للتخلص من الفائض في العمالة الوافدة. إن الخلل الحاصل في سوق العمل هو عامل واحد من عوامل تأزيم التركيبة السكانية، لكنه عامل أساسي في هذا السياق، وعليه فإن أي خطة لتصحيح الخلل في تلك التركيبة، لابد أن تسبقها خطة للتخفيف من الخلل في سوق العمل، ومن دون ذلك سيبقى المواطن مبعداً عن ماكينة الإنتاج، ومن ثم عن المشاركة الحقيقية في الحياة الاقتصادية والإدارية، وسيبقى الدور الأساسي في يد العمالة الوافدة، بما يسمح لهذه العمالة بالهيمنة على سوق العمل، وتقرير مصيره. وبما أننا أمام لجنة وطنية للتركيبة السكانية، فمن الضروري أن تضع هذه اللجنة نصب عينيها موضوع العمالة الوافدة، وحجم دورها في تكريس الخلل في تركيبة السكان، وكيفية تقليص هذا الدور وحجمه، لمصلحة استبداله بدور للمواطن في مجالات العمل كافة. وهذا يمثل الخطوة الأولى في طريق قد يكون طويلاً باتجاه تقليص الخلل بالتدريج حتى القضاء عليه، وصولاً إلى تخليص المجتمع من آثاره الخطيرة، وهو ما سنعرض له في مقال قادم.