نحن في الخليج لا ندري إن كان عصرُ الرقابة على الإعلام قد ولَّى -كما نسمع من التصريحات المترددة حول حرية التعبير ورفع الرقابة واتساع "الصدور" لسماع الرأي الآخر- أم أن عصراً جديداً "فهلوياً" للرقابة قد انبثق من أمخاخ الحاكمين للإعلام؟! نتحدث عن دول الخليج العربية -التي ليست فيها أحزاب ولا معارضة- نتحدث عن هذه الدول التي تنصُّ دساتيرُها على حرية التعبير؛ وتكفل كرامة الإنسان وتحفظ خصوصيته الإنسانية. نتحدث عن دول الخليج العربية التي وقَّعت على اشتراطات الانضمام إلى الأمم المتحدة؛ ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان! وجاءت دساتيرُها مُعبِّرة عن روح ذلك الإعلان. نتحدث عن هذه الدول وهي تعبُرُ مرحلة جديدة من مراحل نموها وتطورها؛ ونعني بها مرحلة الانفجار المعلوماتي والتواصل التكنولوجي التي ألغت الحدود والسدود، وجعلت الوصول إلى المعلومة أمراً مُيسراً لا يحتاج إلى أوراق أو موافقات أو "فرمانات" من "سلاطين" الإدارات الصغيرة في وزارات الإعلام وهيئاته!. ففي هذه المرحلة؛ وبعد أن زال الرقيب فيزيائياً عن العديد من الصحف؛ نجد أن عشرات الرقباء يحلُّون محل ذاك الرقيب "المزعج"!. بل ويتبرع الواحد منهم لإضفاء هالة الشك والريبة على كل مقالٍ لوطنيٍّ مخلص. بل إن هنالك من الكُتّاب من تم وضعهم في (القائمة الحمراء) التي ضمن شروطها أن يتم فحص كلمات المقال على أكثر من وجه؛ ووضع تاريخ الكاتب أمام رئيس التحرير أو مدير التحرير، ويتم تفسير المقال -أو كلماته- استناداً إلى ذلك التاريخ؛ حتى لو كان الكاتب شيوعياً ثم صار سلفياً!؟ نحن فعلاً نعاني -في ظروف محددة- من جور الحُكم المُسبَّق على مقالاتنا؛ ومن الملف السري الذي يحتفظ به بعض رؤساء التحرير لبعض الكُتَّاب الذين يحيطون أسماءهم بدائرة حمراء. الإشكالية أن المسؤولين يقولون: "ليست لدينا رقابة"!!. وفي واقع الأمر؛ فإن الرقابة موجودة بين جنبات جدران الجريدة -أي جريدة- وهنالك من "الحسَّاسين" والمُفسِّرين الفطاحل من يُصوِّرون للمسؤول أية كلمة -يَستغلقُ عليهم فهمُها- على أنها ضد الصالح العام.. أو ضد مسؤول خائب ؟! وبهذه الطريقة يتم كبت الأصوات الصالحة التي يريدها المجتمع وتساهم في عملية التنمية؛ وترتفع الأصوات النشاز التي لا تعرف إلا المديح "الساذج"، والتلميع "المُنفّر"- الذي يأتي بنتائج سلبية على البلاد ومسؤوليها. وتظل الصحف حبلى بمقالات "الزفَّة" التي ترافق إعلانات التطور والتنمية والديمقراطية؛ التي أصبحت من ملامح الدولة الحديثة، وصار الكل يرقص ويغنِّي في حلبات الاحتفال دونما أي اعتبار لقدسية الكلمة واحترام القارئ؛ بحكم واقع القراءة الذي يفترضه -بعض الكتبة الصغار- فيتحول ذلك إلى رأيٍ عامٍ يُدخلُ كلَّ المجتمع في حفلة الرقص. وبهذا الأسلوب تتم محاربة أصحاب المقالات الجادة والجريئة بشتى الطرق؛ كي تبقى تلك الأقلام السطحية التي تمَرِّرُ أفكاراً عقيمة، ويتشكل الرأيُ العام على ضوء تفكيرها ومدى قربها أو استفادتها من مدح هذه الوزارة أو ذاك الوزير!. ولقد تم التيقن مؤخراً من أنه يوجد من بين الكُتاب من يستأجر أقلاماً لتكتب بدلاً منهم. وتم اكتشاف حالتين لكاتبتين خليجيتين تكتبان ولكنهما لا تناقشان ما تكتبان؛ ولا تتذكران ما ينشر باسميهما!؟ وكان كل همهما أن توضع لهما صور فوق المقال كل شهر بـ (New Look)؟! الرأي العام في الخليج ليس غبياً أو مسلوبَ الإرادة. وإن هنالك وسائل عديدة يُمكن للكاتب أن يوصل أفكاره عبرها للرأي العام! لكن رأينا -بكل بساطة- لماذا نُلجئ الكاتب المحلي إلى الكتابة في الإنترنت أو في صحف خارجية؛ ونحن نعلن صراحة عن حرية التعبير؟! بل إن القانون واضح وصريح. فمتى خالفَ الكاتب القانون يحق له أن يتواجه مع الجهة المتضررة -من مقاله- أمام القضاء! ولئن كانت الحال كذلك؛ فلماذا يَنصُبُ بعض القائمين على الصحف محاكمَ استباقية ضد الكُتّاب الجادين!؟ حقيقة أخرى نستطيع التيقن منها وهي أن الكاتب المسكين –وأغلب الكُتاب من ذوي الدخل المحدود- لا يطمح أن يكون حاكماً أو رئيساً للوزراء أو حتى وزيراً! وإنه لا يُحرِّض المجتمع ضد النظام؛ وهذه حقيقة واضحة في دول الخليج العربية. بل إن كلمة واحدة ترد في مقال يمكن أن تقضي على مستقبل الكاتب كله!! ويتحول إلى شخص "غير مرغوب فيه". والكاتب -في أغلب دول الخليج- مطواع ومُتنازل؛ فمتى قالوا له: إذا لم تتوقف عن الكتابة سنقطع راتبك! سوف يتوقف ليحفظ رغيف عياله. ولا ندري لماذا الخوف من الأقلام الجادة التي تسعى للمصلحة العامة؛ خصوصاً إن ذكّرت تلك الأقلام بنصوص الدساتير التي تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ؟! وأن المحكومين اقترعوا على الدستور بكل حب ووطنية. ومن دلالات التقدم والتطور اللجوء إلى الدستور. نقول لا يجوز حرمان كاتب من الكتابة طالما أنه لم يخالف القانون. ولا يجوز أن يكون هنالك قانون –خفي وغير مكتوب- يتم إملاؤه على رؤساء التحرير في جنح الظلام. وطالما أن عقاب المُخالفة واضح في قانون المطبوعات؛ فإن الاحتكام لذلك القانون هو الفيصل بين الطرفين. الإشكالية التي نحن بصددها أننا نعيش حالة "انفصام" بين جمالية النصوص ووحشية تطبيقها. أجمل تعليق سمعته من أحد رؤساء التحرير: "خلنا نوقف المقالات حتى تبرد القضية وبعد الصيف ننشرها"؟ يتصور الزميل أن الكتابة صحن "شوربة" أو عادة سيئة يمكن أن يؤجلها الكاتب صيفاً كي يتأهل شتاءً ويغمس كلماته في قِدْر المُداهنة؛ ليكون مقبولاً ولا يُغضب السلطة. إذا كنا نعيش بهذه العقلية ونحن في الألفية الجديدة. ويُمكن وقفُ كاتب ظلّ يكتب سنوات طويلة دون توقف ودون أن يكون معادياً للدولة، فكيف يحق لرئيس تحرير، أو من ينوب عنه، أن يوقف مقالات لمثل هذا الكاتب ؟! وأين السند القانوني لذلك المنع ؟ ولمن يلجأ الكاتب إذا كان خصمهُ هو الحَكم!؟ ثم إذا كانت الدول -ضمن سياق التحضّر والحضارة- تُجاهر بالمكاشفة؛ وعدم إخفاء الحقائق عن الشعوب -وبالمناسبة فلا يُمكن إخفاء أي شيء هذا الوقت- فكيف يمكن للجريدة أن تقوم مقامَ الحكومة وتمارس المنع أو مُصادرة رأي أو حق المواطن في إبداء رأيه الذي يكفله الدستور ؟! وكيف لنا أن نُعلِّمَ أولادنا نصوص الديمقراطية ؟! وما هي نوعية الديمقراطية التي نريدهم أن يتربّوا عليها، إذا كان "الولاة ُ" في الصحافة يقمعون هذه الديمقراطية!. كذلك لا يُمكن اعتبار كاتب مخلص يكتب عن عيوب الإدارة أو أسباب تعثر المؤسسات أو استشراء الفساد فيها؛ على أنه مُحرِّض أو يسير ضد اتجاهات الدولة؟ ولا يُمكن أن تستقيم أمورُ المجتمع إلا بالحوار. حوار السلطة مع المجتمع. ولا يكون ذلك الحوار ممكناً -في ظل الأوضاع السياسية الحالية- إلا عبر الصحافة. ومتى كانت هذه الصحافة "مُهادنة"؛ ودوماً مع رأي الحكومة وتصادر أراءَ المخلصين المستنيرين؛ فإنها في حقيقة الأمر لا تخدم السُّلطة؛ بل تشوِّهُ الحقيقة وتربكُ توجهاتِ السُلطة. وتشجّع إصدارَ الأحكام الجائرة التي تشوّهُ تلك التوجهات!. نحن نقصد من هذا الحديث أن هنالك مجموعة من الكتاب الجادين المخلصين لأوطانهم، لا يرضون استشراء الأخطاء -وإنْ خدَمت هذه الأخطاءُ مجموعة صغيرة من المستفيدين- كما أن السُّلطة تستشفُ وتتلمسُ طريق الحقيقة عبر الصحافة "الحرة" ولا يمكن التعويل دائماً على "أهل الثقة" فهم بشر يُحبّون لأنفسهم ما لا يحبونه لغيرهم!؟ وأخيراً؛ يجب عدم التخوف من الكتّاب المؤهلين للكتابة والذين يودون لبلدانهم التطور، ولذويهم الراحة والطمأنينة. ولا يجوز أن يخلق البعضُ -من هؤلاء الكتاب- "أبطالاً من ورق".. بل يجب الخوف من الذين يستأجرون أقلاماً أو يؤجرون أقلامهم؛ فهم الذين يجب أن تتفتح أعين الرقباء على مقالاتهم التي لا تخدم الأوطان!!