هناك حقيقة علمية يُجمع عليها الباحثون في علم السياسة، ومؤداها أن الإدراك السياسي للنخب السياسية الحاكمة في بلد ما، هو الذي يحدد نوعية المصالح القومية التي ينبغي الدفاع عنها ولو باستخدام القوة المسلحة في بعض المواقف، التي تمثل خطراً حالاًّ على الأمن القومي لبلد ما. غير أن الباحثين في علم النفس السياسي الذين اهتموا بنظريات الإدراك كما بلورها علم النفس العام، اهتموا بالتمييز الدقيق بين الإدراك وسوء الإدراك Misperception. في الحالة الأولى الإدراك يكون مطابقاً لتقدير موضوعي للواقع المحلي والإقليمي والعالمي، ومن ثم فغالباً ما ينعكس ذلك بصورة إيجابية على عملية صنع القرار. بعبارة أخرى تصبح النخبة السياسية الحاكمة في موقف يسمح لها بالتقدير الدقيق للمصلحة القومية، وبالتالي لا تندفع لاتخاذ قرارات، وأخطرها بطبيعة الأحوال قرار شن الحرب على أعداء حقيقيين أو مُحتملين. وهذه هي حالة الإدراك السويِّ. غير أن المشكلة تكمن في سوء الإدراك من قبل النخب السياسية الحاكمة. ويظهر ذلك في تشوُّه عملية قراءة الواقع بواسطة النخبة، أو في المبالغة في تصور خطر معين يهدد الأمن القومي، أو في التهوين من قدرات الخصوم. وهذه هي حالة الإدراك المرضي الذي ينتاب بعض النخب السياسية الحاكمة. وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد لنأخذ مثال النخب السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية. نحن نعرف جميعاً أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحول فيها الحلفاء إلى أعداء، ونعني الاتحاد السوفييتي من ناحية والولايات المتحدة الأميركية من ناحية أخرى. وبدأت الحرب الباردة بكل تجلياتها الإيديولوجية والسياسية والعسكرية بين القطبين الكبيرين. وفي غمار الحرب الباردة تكوَّن يقين لدى النخبة السياسية الحاكمة الأميركية أن فيتنام الشمالية تهدد فيتنام الجنوبية، وقد تقوم بغزوها مما يهدد بانتشار الشيوعية في آسيا، والتي حاولت الولايات المتحدة الأميركية حصارها على مستوى العالم. وهكذا اتخذت النخبة الأميركية قراراً بمساعدة فيتنام الجنوبية أولاً بإرسال مجموعات صغيرة من المستشارين، ثم تحول الأمر من بعد إلى نقل مئات الألوف من القوات المسلحة الأميركية. وبدأت مواجهة كبرى بين الولايات المتحدة الأميركية وفيتنام الشمالية، ودخلت الصين والاتحاد السوفييتي -وإن كان بشكل غير مباشر في المعركة- وهكذا قامت الحرب الأميركية الفيتنامية، واستمرت سنوات طويلة وقع فيها ألوف الضحايا من الأميركيين والفيتناميين. والواقع أن القرار الأميركي بدخول الحرب يعد حالة نموذجية من حالات سوء الإدراك. وذلك لأنه أولاً لم يكن هناك خطر يهدد الأمن القومي الأميركي من امتداد النظام الشيوعي إلى فيتنام الجنوبية. وهذا الخطر ضخمته النخبة السياسية الحاكمة الأميركية، لأنها لا تستطيع أن تعيش إلا في ضوء التهديد بالحرب أو الدخول في حرب فعلية. وليس هذا غريباً فقد كان ذلك هو المذهب السائد لدى قادة الدولة الأميركية منذ إنشائها. وقد عبر عن هذا المذهب ببلاغة منقطعة النظير المفكر والروائي الأميركي المعروف "جور فيدال" في كتابه الذي أخرجه بعد أحداث 11 سبتمبر في أميركا، والذي كان عنوانه "حرب دائمة من أجل سلام دائم!". وقد منع نشر الكتاب في الولايات المتحدة الأميركية، واضطر مؤلفه إلى نشره في إيطاليا. ويعني العنوان أن النخبة السياسية الحاكمة الأميركية في كل عهودها -ولا فرق في ذلك بين الإدارات "الجمهورية" و"الديمقراطية"- كانت تفتعل الأزمات مع دول متعددة، سعياً وراء خوض حروب بزعم أنها ضرورية لتحقيق السلام العادل، وذلك تحت ضغوط جماعات الضغط ومصانع السلاح وأصحاب المصالح في زيادة ميزانية البنتاجون إلى ما لا نهاية. غير أن سوء الإدراك يتبدى بشكل أوضح في التهوين من قدرات المقاتلين من فيتنام الشمالية، الذين ظنت القيادة العسكرية الأميركية أنها يمكن أن تكسر إرادتهم بغارات جوية ساحقة هدفها إبادة أكبر قدر من الشعب الفيتنامي نفسه، الذي صمد صموداً أسطورياً، واستطاع أن يفرض الهزيمة الساحقة على الولايات المتحدة الأميركية أكبر قوة عسكرية في العالم، والتي اضطرت أن تنسحب من سايجون انسحاباً مُهيناً. وعلى رغم دروس فيتنام القاسية فإن النخبة السياسية الحاكمة الأميركية عادت من جديد وكأنه نوع من الإدمان السياسي لممارسة مرض سوء الإدراك للواقع المحلي والإقليمي والدولي، وشرعت في الإعداد لغزو العراق عسكرياً. ومهَّدت لذلك بحملة دعائية كاذبة كبيرة مكونة من عدة عناصر زائفة. أولها أن النظام العراقي بقيادة صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، مع أن فريق التفتيش الدولي الموفد من الأمم المتحدة لم يؤكد ذلك. وثانيها أن لصدام حسين علاقات مع تنظيم "القاعدة". وخاضت الولايات المتحدة الأميركية حرباً دبلوماسية ضارية داخل مجلس الأمن لتثبت قضيتها المزيفة، في حين أن الدول الأعضاء الدائمة رفضت هذه الحجج، وفي مقدمتها الصين وروسيا وفرنسا. وهكذا أدى سوء إدراك الواقع الدولي وخصوصاً من زاوية رفض الدول، حتى حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، للهيمنة الأميركية على النظام الدولي إلى تقديرات أميركية خاطئة. وقد برزت الرغبة الأميركية في الانفراد بحكم العالم في استهانتها بالمؤسسات الدولية وبالمعاهدات الدولية على السواء. فقد انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من معاهدة "كيوتو" التي وافقت عليها 200 دولة لضبط المناخ العالمي، معرضة بذلك الكوكب إلى تلوث خطير، وانسحبت كذلك من معاهدة حظر انتشار الصواريخ، ورفضت الموافقة والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومن ناحية أخرى تبدى سوء الإدراك في الاستهانة بقدرات الشعب العراقي، والجهل الفاضح بتاريخه النضالي. فقد ذهبت القوات الأميركية الغازية وفي ظنها أن الشعب العراقي سيقابلها بالورود باعتبارها قوة تحرير وليست قوة غزو، وإذا بالشعب العراقي يبادرها -بعد السقوط السريع للجيش النظامي العراقي- بمقاومة مسلحة باسلة، استهدفت أساساً قوات التحالف الغازية. وإن كان قد نشأت حركات إرهابية تمارس الإرهاب ضد الشعب العراقي نفسه، وتقتل منه العشرات كل يوم، مما أدى إلى ضبابية الصورة البطولية لحركة المقاومة العراقية. غير أن هناك حقيقة برزت ولاشك فيها، وهي أن الولايات المتحدة الأميركية قد هزمت هزيمة ساحقة في العراق، وأصبحت في حالة عجز واضح، فهي لا تستطيع البقاء، ولا تستطيع الانسحاب. والواقع أننا بمعالجتنا لمشكلة الإدراك السياسي والمصالح المتغيرة بشكل عام، مع التركيز على الحالة الأميركية، كنا نريد التمهيد للدراسة التفصيلية للحالة الإسرائيلية، وخصوصاً في ضوء تصريح "أولمرت" رئيس وزراء إسرائيل بأن الموافقة على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تحقق المصلحة الإسرائيلية. والسؤال هنا كيف تغير الإدراك الإسرائيلي من الرفض القاطع لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى القبول بها، وكيف غيرت النخبة الحاكمة الإسرائيلية من إدراكها للواقع المحلي والإقليمي والدولي، مما أدى إلى إعادة صياغتها للمصلحة القومية الإسرائيلية؟