هل إسلاميو تركيا ليبراليون حقاً، كما ذهب عبد الرحمن الراشد في "الشرق الأوسط"، وهل هم نموذج للديمقراطية فعلاً، مثلما رأى فهمي هويدي في "الأهرام"، وهل تصل استنارتهم إلى مستوى يدفعنا إلى التطلع لأن تقتدي بهم الأحزاب الإسلامية في العالم العربي، على نحو ما تمنى جهاد الخازن في "الحياة"؟ وليست مقالات الراشد وهويدي والخازن إلا أمثلة ضمن موجة من الكتابات اجتاحت الصحافة العربية في الأيام الماضية، وغلب عليها تقريظ سلوك "حزب العدالة والتنمية" التركي الذي فاز في الانتخابات التشريعية للمرة الثانية على التوالي. ولكنها أمثلة موحية للغاية، لأن الراشد وهويدي يقفان تجاه مختلف القضايا على طرفي نقيض في الغالب الأعم. أما الخازن فهو كثيراً ما يكون في الوسط بينهما. ولذلك فعندما يتفقون، كل من منطلقه وبطريقته، على تقويم أداء "حزب العدالة والتنمية" في تركيا، فهذا مؤشر قوي على أن النظرة السائدة إلى هذا الحزب إيجابية للغاية في الفكر السياسي العربي بمختلف اتجاهاته ومواقفه. ولهذه النظرة ما يدعمها في الواقع. فنحن إزاء حزب إسلامي سياسي لا مثيل له حتى الآن في منهجه المعتدل ونزعته العملية وميله إلى المرونة في كثير من الأحيان. كما أن موقفه تجاه قضايا الحريات العامة والشخصية مشهود، رغم تأييده حجاب المرأة وعمله الدائب من أجل توسيع انتشاره من دون أن يمنعه ذلك من احترام النساء غير المحجبات وترشيح عدد منهن على لائحته الانتخابية. لذلك فهو يحظى بترحيب واسع في الغرب، وليس فقط في العالم العربي، إذ ينظر إليه كثير من الأوساط الغربية المعنية بالمنطقة عموماً والإسلام السياسي فيها خصوصاً، باعتباره حزباً إسلامياً نموذجياً أو بوصفه نموذجاً لما يطلق عليه "الإسلام الليبرالي". ويصل انبهار بعض الدوائر السياسية ومراكز التفكير ووسائل الإعلام في أميركا وأوروبا بهذا الحزب، إلى حد الرهان على إمكان تعميمه في المنطقة. غير أن هناك فرقاً ينبغي ألاّ يغيب، بين أن يكون "حزب العدالة والتنمية" أكثر ديمقراطية من أي حزب إسلامي آخر فيما نعرف حتى الآن، وبين أن يكون حزباً ديمقراطياً نموذجياً لا تأتيه الشمولية ولا الأحادية من بين يديه ولا من خلفه. فأن يكون هذا الحزب أكثر ديمقراطية من غيره، فهذا مما لا شك فيه اليوم. ولكن لكي تكون ديمقراطيته كاملة غير قابلة للانتكاس أو الارتداد، فهذا يقتضي إيماناً لا لبس فيه بأن دكتاتورية الأغلبية لا تختلف من حيث المبدأ عن الاستبداد الفردي أو طغيان قلة حاكمة. وليس هناك ما يدل على أن "حزب العدالة والتنمية" يؤمن بديمقراطية غير قابلة للتحول إلى ديكتاتورية الأغلبية بالممارسة، لأن رؤيته لعملية الانتخابات في النظام الديمقراطي مازالت تفضي إلى مثل هذه الدكتاتورية. وكانت الانتخابات التركية الأخيرة، والأزمة التي سبقتها وأدت إلى تبكير موعدها من نوفمبر القادم إلى يوليو الماضي، مختبراً عملياً أظهر أن هذا الحزب يؤمن بأن حصوله على الأغلبية يجيز له أن يحتكر السلطة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبأن التفويض الانتخابي هو تفويض مطلق وليس نسبياً. ويعني ذلك أنه يرفض اثنين من أهم مبادئ العملية الديمقراطية، بل المبدأين اللذين لا تكون هذه العملية ديمقراطية حقاً في غيابهما، وهما التوافق الوطني على القضايا الكبرى، ونسبية التفويض الانتخابي ومحدوديته زمنياً وموضوعياً. ويقضي المبدأ الأول بأن تكون معالجة القضايا الكبرى، خصوصا تلك التي يوجد انقسام عميق بشأنها، عبر توافق وطني عام يقوم على حلول وسط، وليس من خلال موقف أو برنامج الحزب الحاصل على الأغلبية. وقد كشف "حزب العدالة والتنمية" نفوره من هذا المبدأ عندما أصر على أن يكون رئيس الجمهورية القادم من بين قادته (عبد الله جول)، ورفض الحل الوسط الذي يقضي بالتفاهم على شخصية توافقية تكون موضع رضا من مختلف أو معظم الأحزاب. وكان موقفه هذا سبباً في اندلاع الأزمة السياسية التي أدت إلى تبكير موعد الانتخابات. ومع ذلك فما زالت هذه المسألة تمثل اختباراً للحزب في الفترة القليلة القادمة. فهل يقبل رئيساً توافقياً، وهل تكون هذه الخطوة –إذا أقدم عليها– مناورة مؤقتة إلى أن يتمكن من فرض موقفه واحتكار المواقع الرئيسية في الدولة والحكومة كاملة؟ هذه الأسئلة التي مازالت مفتوحة، تنطوي على أهمية خاصة من زاوية أن جوهر الممارسة الديمقراطية هو قبول الآخر مهما كان الخلاف معه، والحوار والتفاهم جنباً إلى جنب التنافس السلمي. وقد ظهر عشية الانتخابات أن زعيم الحزب رجب طيب أردوجان لديه مشكلة مع هذا المبدأ عندما هدد صراحة عشية الانتخابات بأنه سيعتزل الحياة السياسية إذا لم يحصل حزبه على أصوات كافية تتيح له أن يحكم منفرداً، أي أنه يرفض المشاركة في حكومة ائتلافية. وهذا موقف شمولي وليس ديمقراطياً، فضلاً عن أنه لا يخلو من تعال على الأحزاب والقوى الأخرى. أما المبدأ الثاني فهو أن التفويض الانتخابي تفويض نسبي وليس مطلقاً، وجزئي وليس شاملاً، ومحدود وليس كاملاً، لأنه إذا لم يكن كذلك أنتج سلطة مطلقة تناقض طبيعة الممارسة الديمقراطية. وليس هناك ما يدل على أن الحزب التركي يؤمن بذلك، رغم خطابه المعتدل وحرصه على عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع المؤسسة العلمانية. وحين يرفض أردوجان فكرة الحكومة الائتلافية، ويصر على احتكار مواقع السلطة كلها من دون توافق وطني، فهذا يعني أنه يعتبر التفويض الانتخابي مطلقاً وليس نسبياً. وعندما طرح تبكير موعد الانتخابات، فقد قصد بذلك تأكيد هذا المعنى المطلق وكأنه يريد القول: إذا فزنا مرة أخرى فهذا يعني أن الشعب فوّضنا بشكل كامل. وهو –هنا– يبدو كما لو أنه يؤمن فعلياً بمبدأ البيعة وليس الانتخاب الديمقراطي. فقد كان أردوجان يعلم أن حزبه سيفوز وبنسبة أكبر من الانتخابات السابقة، لكن ليس لأنه إسلامي، وإنما بسبب أدائه الاقتصادي الجيد في الحكم حيث ارتفع معدل النمو إلى أكثر من 7%، وانخفض التضخم إلى 8.6% بعد أن كان قد تجاوز 30%. ولكن هذا لا يصح أن يؤدي إلى إغفال حقيقة أساسية، وهي أنه إذا كانت الطبقات الشعبية والفئات الدنيا تؤيده في معظمها، فالجزء الأكبر من الطبقة الوسطى يخشاه ويخاف على مستقبل تركيا من توجهاته التي ما يزال بينها وبين الديمقراطية الكاملة مسافة غير قصيرة، لكنها ليست طويلة للغاية أيضاً.