كل ثلاثاء تنشر صحيفة "القاهرة" الثقافية المتخصصة، خبراً مثيراً عن "العثور" على مومياء أحد أهم فراعنة مصر الكبار. والطريف أن هذه المومياوات مكتشفة بالفعل بل ومودعة بالمتحف المصري ذاته, من دون أن تعرف أو تسجل بأسماء هؤلاء الفراعنة. وقد نشرت الصحيفة منذ أسابيع خبراً عن العثور على مومياء الملكة "حتشبسوت" في الدور الثالث بالمتحف المصري بعد قرن من اكتشافها. من حيث التفاصيل يعد هذا الاكتشاف صدمة للرأي العام، لكنه لا يعد كذلك في فحواه. فمما يميز مصر أنها قد تعثر على ما اكتشفته -أو ما اكتشفه لها الآخرون وهو كثير -لكن بعد قرون. وكامتداد لهذا "الامتياز" لا يعد اكتشاف شيء أو حتى "العثور" عليه دالاً على أننا سنفيد منه. لا أعلم ما إذا كان ثمة جذر مشترك بين كلمتي "عثر" و"تعثر"، لكن حالتنا تقول بذلك, فمن لم يعثر يتعثر. وظلت حضارتنا العربية الإسلامية بعيدة عن "العثور" على شروط تجددها ولحاقها بالحضارة الحديثة، فتعثرت طويلاً حتى حسم محمد علي الكبير الأمر بالنسبة لمصر في فترة ما. ثم ضاع ما عثرنا عليه أو "أضيع" في العقود الأربعة الأخيرة. وبالنسبة للعثور على مومياوات الفراعنة الكبار، ساعدت الاكتشافات الحديثة للحمض النووي، وهو أحد نواتج ثورة الهندسة الوراثية، على إعادة التعرف على الهوية الحقيقية لها. كنا أيضاً قد عثرنا على "المعادلة" الذهبية للتواصل بين تراثنا الثقافي من ناحية وحضارة العصر من ناحية أخرى. وقام أجدادنا بجهد كبير في إبداع هذه المعادلة أو هذه الصيغة؛ بدءاً من الربع الأول من القرن التاسع عشر فيما أسميناه "مشروع النهضة". وبذلت أجيال متعددة من المفكرين والمثقفين المصريين والعرب جهوداً مستميتة في صياغة "عقلية جديدة" أحيت التواصل مع تراثنا الحضاري الأعظم في القرنين الرابع والخامس الهجريين، من خلال النهل من الثقافة العصرية والدعوة لتجديد مختلف النظم الاجتماعية والسياسية. كان أجدادنا العظام بدءاً من رفاعة الطهطاوي وحسن العطار إلى طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي، مروراً بمئات الأسماء التي أنارت حياتنا الثقافية لنحو قرنين، قد عثروا على الجسر المناسب بين ارثنا الحضاري والحضارة الحديثة. فالتنظيم الاجتماعي والديمقراطي الحديث هو الكتلة الفعالة والمتحركة، وارثنا الحضاري والديني التليد هو الروح، ودولة العدل والقانون هي الكائن الحي الذي يجسد البعدين معاً. وكان "العثور" على هذه الصيغة أو هذا المشروع شرطاً جوهرياً وتمهيداً مناسباً تماماً لتجديد علاقتنا بإرثنا الحضاري والثقافي والديني. بل استنتج أن ارثنا اللغوي لم يعد اكتشافه إلا بفضل هذا المشروع. ويستطيع ابسط المطلعين على أسلوب الكتابة في المرحلة المملوكية والعثمانية أن يدرك هذه الحقيقة. فحتى كبار المؤرخين والكتاب في ذلك العصر كانوا يكتبون بلغة حافلة بالأخطاء الإملائية والنحوية والتركيبية. وبعضهم لم يكن يفضل اللغة العربية وإنما يكتب بالعامية الشائعة حينئذ في بلاده. ومثّل إحياء اللغة العربية عملاً مجيداً لأجدادنا الذين ساهموا في صياغة مشروع النهضة. المشروع الشعري لمحمود سامي البارودي، يبرز هذا المعنى بقدر كبير من الوضوح. إذ كان مطلعاً على إنجازات الشعر الفرنسي والإنجليزي، وهو ما دفعه لتناول معان جديدة. غير أن الأهم هو أن هذا الإطلاع مكّنه من العودة لأشعار البحتري وأبي تمام والمتنبي ومن ثم إنتاج لغة جديدة. وساهم شعراء كثيرون في أنحاء العالم العربي في هذا الإنجاز: إحياء لغة عربية رائعة كنا فقدناها بسبب الجمود الحضاري والثقافي طويل المدى جداً. الآن بدأنا نفقد هذه اللغة الرائعة من جديد، ليس لأننا نقلد الغرب بل لأننا هبطنا في مؤشرات الإنجاز والثقافة. ويهمنا أن نربط هذا الهبوط المحسوس خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالتدهور الذي ألمّ بحياتنا السياسية وبالتنظيم الاجتماعي. فتدهور كفاءة الدولة العربية وخسارتها للجاذبية السياسية والثقافية، فرض واقعاً اغترابياً عاماً أسفر عن التطرف الديني المفقر للدين والحياة معاً, وعن الجنوح السائد بين الأقليات الطبقية المسيطرة لتقليد ما يرونه "ثقافة الغرب"، بينما لا يزيد عن ثقافة هامشية في الغرب؛ أي ثقافة "الديسكو". ويعكس تدهور الدولة العربية تراجعاً عاماً في نوعية التنظيم الاجتماعي. فتراجع فهمنا وحماسنا لحقوق المرأة واسترداد قيمتها العظيمة التي كانت ممارسة بالفعل في حياة العرب الأقدمين، رغم سيادة النمط الأبوي, وتراجع فهمنا لمفهوم المجتمع وانطلقت فردية لا أخلاقية مزقت ما بقي لنا من تماسك اجتماعي ومفهوم تعاوني للحياة والعمل. كما تراجع أيضاً دور الدولة في معظم الأقطار العربية وصار وجهها القمعي هو المظهر شبه الوحيد لحضورها في حياة الناس، بدلاً من تشجيع المعرفة والعلوم والاجتهاد في مجال التكنولوجيا والإبداع في التواصل الثقافي والاجتماعي والمشاركة السياسية، وهي القيم التي كان آباؤنا وأجدادنا من المفكرين والكتاب يصرون عليها باعتبارها مفتاحاً للتقدم والنهضة. تعرض مشروع النهضة لنكسة خطيرة، ليس بسبب عيوب أصلية به. فالواقع أنه لم يكمل مسيرته قبل أن تدهمه هزيمة كبيرة من خارجه على يد القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة. ومقارنة بتجارب أخرى، لم تستطع القوى الوطنية والقومية والنهضوية الدفاع عن هذا المشروع، لأنها كانت قد فقدت أو أهدرت أسساً وركائز مهمة في مشروع النهضة كما صاغه أجدادنا: أي الديمقراطية والمشاركة الشعبية. وإن كنا قد عدنا إلى وضع مشابه لما وجدنا أنفسنا عليه عند نهاية القرن الثامن عشر عندما اقتحم الاستعمار الغربي عوالمنا فجأة وبقسوة شديدة، فالواجب هو أن نعيد "العثور" على مشروع النهضة ذاته أو أن نضيف له مما كسبناه من خبرات واجتهادات في القرنين الماضيين. والسؤال هو: كيف نعيد العثور على ما كنا اكتشفناه بالفعل؟ ليس لدينا في المجال الاجتماعي والسياسي شيء مشابه للثورة في الهندسة الوراثية واختبار الحمض النووي الذي مكنا من إعادة العثور أو إعادة تسمية الفراعنة الذين نملك مومياواتهم. فلماذا نلجأ لإعادة اكتشاف صيغة مشروع النهضة المناسب لهذه المرحلة الصعبة من تاريخنا العربي؟ أعتقد أن المفتاح الأساسي لإعادة الاكتشاف ليس تكنولوجيا معينة أو حتى المعرفة الخالصة بذاتها. المفتاح هو الإبداع في تركيب تحالف عربي شامل لإحياء مشروع النهضة والإضافة إليه. فالإعاقة الحقيقية ليست ثقافية، وإنما تكمن في تحالف طبقات طفيلية وهشة وبالغة التفاهة على المستويات الأخلاقية والثقافية، بل وحتى على مستوى "البزنس" ذاته. ولدينا ركائز مهمة لهذا التحالف: طبقة وسطى عريضة وتتوسع بالتدريج ولها قمم مهمة وتسيطر على فنون الإدارة والمعارف الفنية, بعض رجال "البزنس" المحترمين الذين أداروا تجارب ناجحة في بناء صناعات ومؤسسات خدمات قوية وناجحة, المثقفون والمبدعون الذين لا يزالون رغم كل ما أصبهم المخزون الأساسي لذاكرة الأمة ومناط مشروعها كله للانطلاق من جديد. المشكلة أن هذه الفئات لم تعِدْ اكتشاف قيمة التوحد على المستوى العربي كما تتوحد فعلياً الفئات الطفيلية التي تسيطر حالياً على حياتنا العربية. الأمل هو أن نعيد العثور على هذا الكشف القديم سريعاً. ولو في الدور الثالث أو حتى الأخير من "دماغنا"!