حقق حزب "العدالة والتنمية" التركي، فوزاً كبيراً بحصوله على 47% من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية، مما يشكل 342 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي. وهذه النسبة العالية التي حصل عليها الحزب في الانتخابات التي شارك فيها 85% من الناخبين الأتراك، تمكنه من تشكيل حكومته والمضي قدماً في برنامجه الإصلاحي في التنمية والتطوير. لقد رحب العالم بهذا الفوز وبخاصة أوروبا وأميركا، والملفت هو إشادة الفاتيكان بفوز الحزب واعتباره أفضل نتيجة ممكنة لأوروبا وللكنيسة المسيحية. والسؤال الآن هو: ما دلالات هذا الفوز؟ وماذا يمثل نجاح "حزب العدالة والتنمية" على الصعيد الإسلامي؟ 1- يمثل نجاح "حزب العدالة والتنمية"، وهو حزب يعد الممثل الأصدق لما يسمى "الليبرالية الإسلامية"، أبلغ رد على فتاوى تكفير الليبرالية واعتبار الليبراليين خارجين على الدين، فهذه الفتاوى، فضلاً عن أنها تدل بوضوح على جهل أصحابها بحقيقة ومفهوم "الليبرالية"، والتي لا تخرج عن قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والمسؤولية الفردية، وهي كلها قيم تحتضنها منظومة القيم الإسلامية، فإنها تمثل نوعاً من الاحتكار للفهم الديني -والاحتكار ما دخل شيئاً إلا أفسده- إضافة إلى أنها تشكل نمطاً سائداً في التفكير الديني تجاه إقصاء الآخرين، وهما آفتان سيئتان لا ينبغي أن يتصف بهما عالم جعل من نفسه قدوة هادية للناس! لقد صوّت الشعب التركي بأغلبيته لحزب يمثل "الليبرالية الإسلامية"، فهل كل هؤلاء خرجوا عن الجادة وارتكبوا محرّماً؟ 2- يشكل نجاح "حزب العدالة والتنمية"، نجاحاً للتعايش بين الإسلام والديمقراطية، والحزب يقدم المثال الحي على إمكانية التوفيق بل ضرورته لتفعيل "المصالحة" بين مبادئ وقيم الإسلام ومعطيات العصر في الحرية والتنمية، كما يعطينا الأمل في أن يفرز فصيلاً من الإسلام السياسي المعتدل كتيار متصالح مع الحداثة وعلى علاقة صحية وناضجة بالآخر الغربي في نفس الوقت. 3- قدرة التيار الإسلامي المعتدل والملتزم بالنهج الديمقراطي، على الفوز بثقة ودعم الناخبين حتى في أشد الدول تطرفاً في العلمانية المناهضة للمظاهر الدينية. والسؤال الآخر: لماذا ينجح الحزب الإسلامي التركي، سواء في المعارضة أم في السلطة ويحقق إنجازات تنموية واجتماعية، بينما تفشل كافة الأحزاب الإسلامية العربية -معارضة أو سلطة- وتحقق فشلاً ذريعاً، بل (كابوساً) مخيفاً لمجتمعاتها وللعالم أجمع؟ 1- الحزب الإسلامي التركي لديه برنامج إصلاحي تنموي منفتح على العالم، يتبنى الاعتدال والواقعية ويسعى لعلاقات متميزة مع دول العالم. بينما الأحزاب الإسلامية في الساحة العربية تفتقد مثل هذا البرنامج لأنها تعتمد بشكل أساسي على خطاب إيديولوجي تحريضي وعلى تعبئة الشارع بأوهام الشعارات الفارغة مثل "الإسلام هو الحل" دون مضمون حقيقي، فضلاً عن أن كافة الأحزاب الإسلامية تتبنى خطاباً معادياً لمجتمعاتها ولأنظمتها وللعالم كافة عبر ما يسمى بمشروع "المواجهة". جميع الأحزاب الإسلامية مسكونة بالهواجس التآمرية ومشغولة بما يعمق الكراهية والانعزالية والمفاصلة، وغارقة في لوم الآخر العربي باعتباره المسؤول عن أوضاع التردّي السيئة. 2- يأتي فوز الحزب الإسلامي التركي، مكافأة من الشعب لهذا الحزب الذي تسلم السلطة منذ عام 2002 واستطاع أن يحقق إصلاحات اقتصادية واجتماعية كبيرة. لقد كان الناتج الإجمالي 181 مليار دولار في ذلك العام، وأرتفع الى 410 مليارات دولار العام الماضي، بمعدل نمو نسبته 7.4% سنوياً. وارتفعت الاستثمارات الأجنبية خلال الفترة نفسها من مليار دولار إلى 20 مليار دولار، وتراجع التضخم المزمن من 29.7% إلى 9.65%، وتراجع عجز الموازنة إلى 0.7%، بينما تراجع الدين العام من 78% إلى 45% من الناتج المحلي الإجمالي. ولأول مرة منذ خمسينيات القرن الماضي لا يظهر الأتراك رغبة في الهجرة بحثاً عن فرص عمل. وفي مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي فإن مسلك الحزب اتسم بالصبر والعزم والسعي الحثيث لتحقيق الشروط الأوروبية بحكمة ورشد. وفي امتحان الحريات، برهن الحزب على مصداقيته في إيمانه بالحريات الفردية، وحينما قام العلمانيون بمظاهرات ضخمة للتشكيك في المصداقية الديمقراطية للحزب، فإنه رفض القيام بمظاهرات مضادة رغم قدرته على ذلك. والسؤال الأخير: هل هناك إمكانية لاستفادة الأحزاب السياسية العربية من دروس نجاح الحزب الإسلامي التركي؟ لا أظن ذلك، بسبب العناد والرفض والاستعلاء والممانعة التي تتصف بها الأحزاب الإسلامية العربية عامة، فهي لا تعترف حتى الآن بأخطائها وخطاياها الكارثية تجاه مجتمعاتها وتجاه بعضها بعضاً، ولم تبدأ حتى الآن عملية المراجعة والتقويم لمسيرتها الطويلة في حقل الممارسة السياسية أو التنظيرية، وهي حتى الآن تعادي القيم الليبرالية باعتبارها بضاعة غربية فاسدة، وهي حتى في حالة وصولها للسلطة فإنها تجوّع شعبها وتستجدي المعونات ثم تغذي الجماهير بالشعارات الحماسية ولا تنجز شيئاً. ويبقى تساؤل مشروع آخر: إذا كانت تجربة الحزب الإسلامي في تركيا، تجربة فريدة تمثل استثناءً غير قابل للاقتداء بها من قبل الحركات الإسلامية السياسية العربية، فلماذا سارعت حركة "حماس" من جهة، وجماعة "الإخوان المسلمين" من جهة أخرى للاحتفاء والإشادة بفوز "حزب العدالة والتنمية"؟ الحقيقة أن إشادة هؤلاء تمثل نوعاً من التوظيف السياسي الممارس ضد السلطة الرسمية، هذا من جهة، وللبرهنة أن الشعوب إنما تختار المشروع الإسلامي في ظل المناخ الديمقراطي، من جهة أخرى. حسناً، ولكن أي مشروع إسلامي ستختاره الشعوب؟ هل هو على النمط التركي أو الماليزي أو "الإخواني" أو "الحماسي"؟ ليت "الإخوان" في مصر، والذين دعوا النظام الحاكم في مصر للاقتداء بالتجربة التركية في احترام إرادة الشعب، وكذلك الأمر بالنسبة لـ"حماس" أيضاً، ليتهم جميعاً بدؤوا بأنفسهم فاقتدوا بتجربة "حزب العدالة والتنمية" التركي قبل أن يدعوا النظام إلى ذلك؟ ليتهم كانوا أكثر تسامحاً واعتدالاً مع خصومهم، ليتهم كانوا قادرين على تجاوز فكر الكراهية ومنطق الإقصاء المهيمن على تنظيراتهم الفكرية وعلى ممارساتهم السياسية. إسلاميو تركيا وماليزيا، لا يشبهون إسلاميينا لا من قريب ولا من بعيد، هؤلاء أعلنوا القطيعة المعرفية مع خطاب العنف ومشروع المواجهة، وتبنوا "الحداثة" و"الليبرالية" فكراً وممارسة. إسلاميو العرب لا زالوا أسرى فكر الماضي والحلم بالخلافة وإعلان الجهاد العالمي ضد سكان المعمورة. لو كان الإسلاميون عندنا مثل إسلاميي الأتراك، لقلنا جميعاً: أهلاً ومرحباً بهم على الطريقة التركية.