إذا كان العرب قد عانوا الأمرين مع إدارة جورج بوش الابن، أو إدارة "المحافظين الجدد"، فيبدو أنهم على موعد مع إدارة جديدة لا تختلف كثيراً، أو ربما أسوأ، في عام 2009. هذا ما توحي به طبيعة الحملة الانتخابية الأولية للمتنافسين على ترشيح الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي" للرئاسة الأميركية. كانت العادة ولا تزال في العملية السياسية الأميركية أن اتخاذ موقف معاد أو متشدد من العرب والمسلمين يشكل مصدر دعم للسياسي الأميركي. كان هذا هو الأمر منذ ما قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر. صار الأمر أسوأ بعد هذه الهجمات. هل يعني هذا أن هناك عداء متأصلا للعرب في الثقافة الغربية؟ ليس بالضرورة. هناك انتهازية سياسية من قبل السياسيين في الغرب. لكن هناك أيضاً ضعفا عربيا يزداد سوءاً مع الوقت. وعندما تجتمع الانتهازية مع الضعف تصبح النتيجة المشهد السياسي الغربي الحالي، وخاصة الأميركي، حيث يتحول العربي، أو القضايا العربية والإسلامية إلى ما يشبه الكرة كل سياسي يركلها في الاتجاه الذي يريد. ورد الفعل العربي الإسلامي إما يتوارى خلف صمت مريب، أو لا يتجاوز تصريحات وبيانات للاستهلاك المحلي. مما يكشف شيئاً عن العلاقات العربية الأميركية، وطبيعة الضعف العربي فيها. الانتخابات الأميركية الحالية تقدم نموذجاً جديداً لذلك المشهد، أو مشهد انتخابات على خلفية فشل ما يسمى بالحرب على الإرهاب، حرب العراق. الأمر الذي فتح أبواب بازار المزايدات السياسية الأميركية بين المرشحين على مصراعيها. كل مرشح يقدم نفسه للناخب الأميركي على أنه الوحيد الذي يملك المخرج الذي تنتظره أميركا. وفي سبيل ذلك مستعد أن يذهب بعيداً في وعوده إلى درجة الانتهازية المكشوفة. فهناك من يفكر في غزو باكستان لتخليص أميركا من أسامة بن لادن، وقيادات "القاعدة"، كخيار جاد لسياسته الخارجية فيما لو قدر له أن يدخل البيت الأبيض. وهناك من يفكر في قصف مكة والمدينة كوسيلة لردع الإرهابيين عن مهاجمة أميركا مرة أخرى. وثالث يرى عدم استبعاد اللجوء للسلاح النووي في الحرب على الإرهابيين، وتحديداً قيادات "القاعدة". ليس في الأمر أدنى درجة من المبالغة. هذه مواقف "جادة" لمرشحين "جادين" للرئاسة الأميركية. بل إن اثنين من هؤلاء هما أبرز متنافسين على ترشيح "الحزب الديمقراطي"، وهما السيناتورة هيلاري كلينتون عن ولاية نيويورك، والسيناتور الشاب باراك أوباما عن ولاية إلينوي. والأخير لم يكمل ولايته الأولى في مجلس الشيوخ. لنبدأ بأوباما الذي حسب صحيفة الـ"واشنطن بوست الأميركية" وجه تحذيراً للرئيس الباكستاني، الجنرال برويز مشرف، من أنه في حال انتخابه للبيت الأبيض سوف يطلب من مشرف بـ"أن يفعل أكثر لإنهاء العمليات الإرهابية في بلده، وإلا فإن باكستان ستجد نفسها أمام خطر غزو أميركي، وخسارة المساعدات العسكرية الأميركية لها، والتي تقدر بمئات الملايين من الدولارات". وقال في خطاب انتخابي له الإربعاء الماضي، "دعوني أوضح هذه النقطة. هناك إرهابيون مختبئون في تلك الجبال (في إشارة إلى ما يقال إنه مكان وجود قيادات "القاعدة" في منطقة وزيرستان في باكستان) هم الذين قتلوا ثلاثة آلاف أميركي. هؤلاء الآن يخططون لضربة أخرى. إذا ما حصلنا (أي في حال اختياره رئيساً للولايات المتحدة) على معلومات استخباراتية عن أهداف إرهابية كبيرة تتطلب عملاً عسكرياً، والرئيس مشرف لن يفعل شيئاً، سنقوم نحن بذلك". أي أن أوباما سوف يرسل الجنود الأميركيين للقضاء على تلك الأهداف داخل باكستان، سواء بموافقة الحكومة الباكستانية أو من دون موافقتها، ما يعني التهديد بغزو باكستان. تجدر الإشارة إلى أن مشرف قبِلَ التحالف مع أميركا في "حربها ضد الإرهاب" تحت التهديد من قبل الإدارة الحالية. الفرق أن التهديد السابق كان خلف الكواليس، أما المرشح الحالي فيمارس التهديد علناً، وهو ما يمثل نوعاً من الابتزاز الصفيق. وفي رده على الانتقادات التي وجهت إليه بسبب موقفه، أبدى استغرابه قائلاً "لا يبدو لي بأن ما قلته من النوع المثير للجدل". طبعاً يصعب على مرشح أن يتراجع عن موقف أعلنه وهو في منتصف حملته الانتخابية. هو يعتقد أن تراجعه سيجعله يبدو كمن لا يملك سياسة واضحة، وبالتالي فهو قابل للتغير عند كل منعطف. والحقيقة أن تصريحه يعكس ليس فقط عدم خبرته، بل أيضاً عدم إحساسه بالمسؤولية. ينطوي تصريح أوباما على استهتار علني بدولة حليفة، واستهتار بمقدرات شعب باكستان على مذبح مصالحه الانتخابية. ينطلق أوباما في حملته من أن إدارة بوش الحالية بقرارها غزو العراق ارتكبت مغامرة غير مسؤولة، ثم يأتي الآن ويهدد علناً حتى قبل أن يصبح رئيساً بغزو باكستان. وهذا موقف لا يقل خطورة وأكثر "لامسؤولية". هو يقول إن غزو العراق حرَفَ السياسةَ الأميركية عن محاربة الإرهاب، وجعلها أسيرة لحرب أهلية لا أحد يعرف نهاية لها، ولا لتكاليفها، ولا لمخاطرها. لكن الرجل، وبكل انتهازية، يعتقد أن غزو باكستان هو على العكس من ذلك تماماً. كيف سيخدم هذا الغزو، لو تحقق، هدف محاربة ما يسميه أوباما "الإرهاب"؟ وكيف يختلف عن قرار غزو العراق؟ لا أحد، ولا حتى أوباما، يعرف. كل ما في الأمر أنه يريد اللعب على مشاعر الإحباط المتفشية بين الأميركيين بسبب فشل الحرب في العراق، ومحاولة توظيفها بطريقة عنصرية لتحقيق مصالح سياسية، لا علاقة لها لا بالمصالح الأميركية، ولا الباكستانية. والأرجح أن أوباما لن ينفذ تهديده لو قدر له وفاز في الانتخابات، لأن حسابات المرشح تختلف تماماً عن حسابات الرئيس. وهنا يتضح مرة أخرى مدى استهتار السياسي الأميركي بمشاعر العرب والمسلمين، واستسهاله توظيف مواقف عنصرية ضد هؤلاء العرب والمسلمين فقط للفوز بمنصب الرئيس؟ إذا كان ما قاله أوباما بهذه الدرجة من الاستهتار، فإن ما جاء على لسان السيناتورة هيلاري كلينتون (زوجة الرئيس السابق) أسوأ من ذلك بكثير. كانت كلينتون ترد، أو بعبارة أدق تزايد على ما قاله أوباما من أنه لن يستخدم السلاح النووي في "الحرب على الإرهاب". تقول كلينتون بأن "الرؤساء منذ الحرب الباردة استخدموا الردع النووي لحفظ السلام، ولا أعتقد أنه ينبغي لأي رئيس أن يطلق تصريحاً واضحاً ونهائياً عن استخدام أو عدم استخدام هذا السلاح...". تريد هيلاري هنا أن تقول بأن أوباما لا يزال شاباً يفتقد إلى الخبرة ليكون رئيساً. لكنها في الوقت نفسه تلمح إلى أنها قد تلجأ إلى خيار السلاح النووي في محاربة الإرهابيين فيما لو أصبحت الرئيسة الأميركية القادمة. ربما أرادت أيضاً التأكيد على أن كونها امرأة لن يثنيها عن أن تكون رئيسة قاسية إلى حد استخدام النووي. إلى أي مدى يمكن أن يذهب مرشحو الرئاسة الأميركية في استهتارهم بمقدرات الشعوب، بما فيها الشعب الأميركي؟ يأتي بعد ذلك عضو مجلس النواب الأميركي والمرشح "الجمهوري"، توم ترانكيدو، ليؤكد بأن "هجوماً إرهابياً بالسلاح النووي على الولايات المتحدة قد يكون احتمالاً وشيكاً، وبالتالي على أميركا الإسراع بالتفكير بطريقة لإيقافه". طريقته هو كما يلي: "إذا ما كان الأمر لي، نؤكد بأن هجوماً من هذا النوع على الوطن سيترتب عليه هجوم على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة. هذا هو الشيء الوحيد الذي أظن أنه يمكن أن يردع أي طرف عن التفكير بهجوم من هذا النوع على أميركا". لماذا اخترت أن يكون ترانكيدو آخر الأمثلة؟ لأن تصريحه الأكثر وقاحة وعنصرية، وأنه مرشح هامشي، وهذا هو السبب الذي دفعه إلى إطلاق هذا التصريح الاستفزازي لجذب الأضواء لحملته الهامشية. حقيقة أن الجو السياسي الأميركي يسمح بمثل هذه المواقف التي تتراوح ما بين عدم المسؤولية، والانتهازية والعنصرية، مما يعكس مدى تدهور الثقافة السياسية الأميركية في هذه المرحلة الخطرة. بالأمس لم تتورع إدارة بوش عن الكذب لتبرير غزوها للعراق. والآن يأتي مرشحون يجاهرون باستهتارهم وعنصريتهم ضد العرب والمسلمين لمجرد الفوز بمنصب الرئاسة. لا شك أن هذا يعكس درجة العداء، وربما عدم المبالاة بمشاعر ومصالح العرب والمسلمين، في الثقافة السياسية الأميركية. ترى هل هي مصادفة أن تدهور الثقافة السياسية الأميركية تزامن مع تفاقم حالة الضعف العربي؟ أم أن حالة الضعف هذه هي أحد أسباب ذلك التدهور؟