يمكن أن يلتقي محمود عباس مع إيهود أولمرت، إلا أنه في الظرف الراهن لا يمكن أن يلتقي مع إسماعيل هنية مثلاً. هذه الحالة تختصر ما آلت إليه القضية الفلسطينية، أو من كانت ولا تزال تسمى "القضية المركزية" للعرب، وحتى للمسلمين في أنحاء العالم. من جهة لدينا الفلسطيني الذي يقول إن استمرار المقاومة وحده يثبت أنه لا يزال موجوداً، في المقابل لدينا الفلسطيني الذي يريد أن يبرهن أن إنهاء المقاومة وحده يستعيد الأرض والحقوق وربما يقيم "الدولة". وبين الخيارين، يخشى أن يضيع كلاهما. كثيراً ما ينسى السياسيون أو يتناسون أنهم عندما يقولون لا لشيء ما - فإنهم لابد يعنون عكسه، أو شيئاً "بينَ بين" ينتهي حتماً إلى ذلك العكس. فالقول "لا للحوار" مع "حماس" لابد أن يعني ، مهما اجتهد المحللون والمنظرون، "نعم للاختلاف"، وبالتالي باللغة التي باتت سائدة "نعم للاقتتال". لم تعد الانقسامات والأحقاد والثارات هي ما يشغل وما يقلق، بل اتخاذ انقلاب "حماس" في غزة منصة لإطلاق "حل" للقضية ليس هو الحل الذي يطمح إليه العرب، ولا الفلسطينيون أنفسهم، فليست إسرائيل الطرف الذي يستغل هذا الوضع الفلسطيني البائس لإظهار المروءة والكرم أو حتى مجرد الإنصاف. ما أن انفصل القطاع عن الضفة، ما أن انتصب العداء السافر والعاري بين "فتح" و"حماس"، حتى أصبح "الحل" ممكناً والتفاوض الفلسطيني- الإسرائيلي متاحاً، بل أصبحت هناك "فرحة"- حسب توصيف الدكتورة كوندوليزا- للسلام، لكن بشرط عدم التحاور مع "حماس". هل يدرون عن أي حل وأي سلام يتكلمون؟ هل يعرفون مقدار السم الذي سيضخ في مثل هذا الحل، إذا وجد، وإذا وضع في يد "السلطة" لتهديه إلى شعبها؟ في مثل هذه الحال يجب أن يكون حلاً واضحاً وسريعاً وملموساً لكي يساوي أو بالأحرى، لكي يستحق عدم التحاور مع الجناح الآخر للشعب. أهلاً بــ "الحل"، وأهلاً بــ "السلام"، لكن يجب ألا نخدع أنفسنا، فالوضع الفلسطيني الراهن ليس مؤهلاً ولا قادراً على استقبال أي حل، على افتراض أنه ممكن وآت طبعاً، لا خيار أمام "السلطة" سوى أن تندفع في النفق الذي فتح أمامها، خصوصاً أنه يستجلب لها مساعدات ودعماً، بل لابد من الاعتراف بأن ثمة ما يمكن كسبه في هذا المهرجان الدولي، مهما كان مفعماً بالأكاذيب والخدع، لكن الخسارة ستظهر لاحقاً. وطبعاً، أدركت "حماس" خطيئتها الكبرى عندما خاضت انقلاباً دموياً للاستحواذ على السلطة. لكنه إدراك على طريقة "لو كنا نعرف لما فعلنا"، وهي طريقة ماضية في شق طريقها لتكون في صلب علم السياسة الحديث بعدما طبقتها الدولة العظمى الوحيدة عندما أقدمت على غزو العراق واحتلاله، فلا عجب أن يجرّب المجربون من بعدها سواء في فلسطين أو كما شهدنا في حرب لبنان الصيف الماضي. وضعت "حماس" نفسها أمام خيارين: إما استكمال منطق الانقلاب في عموم المناطق، وإما التراجع والأرجح أنها غير قادرة في الحالتين، فلا هي تستطيع مدّ نفوذها إلى الضفة، ولا هي قادرة مثلاً على إعلان "استقلال القطاع" صحيح أن هذا الإعلان لم يكن في خططها لكن الواقع هو الواقع وقد فرض نفسه. أما "فتح"، أو "السلطة" فترى في المفاوضات مع إسرائيل الامتحان الذي سيحسم الوضع لمصلحتها، وهو ما يفترض أن يكون "المصلحة الوطنية". هذا رهان صعب وخطير، ولا يمكن المفاوض الضعيف أن تحصل على ما يطمح إليه. ثم أن هذا الضعف الناجم عن حال الانقسام قد يشجع على قبول أي حل، خصوصاً أن إسرائيل تتحكم بالخيوط، وعندئذ ستكون المحاسبة الفلسطينية- الفلسطينية بالغة العنف. في الصيف الماضي حصل استقطاب من فوق، أي على مستوى الحكومات، منذ "مغامرة" "حزب الله" من دون أن يعني ذلك تفهماً لوحشية العدوان الإسرائيلي. هذا الصيف جاء الاستقطاب أكثر عمقاً في وجدان كل عربي ومسلم، بل أكثر إرباكاً، مع "فتح" و"حماس" وضدهما في آن، لأنهما ارتكبتا معصية الفتنة وطعنتا القضية في صميمها. لاشك أن مغامرات "حماس" و"حزب الله" تستند إلى أسباب وجيهة، أهمها عقم سياسات الحكومات وعقم علاقاتها مع الولايات المتحدة وعقم تملقاتها لإسرائيل. هناك فراغ كبير ملأته الحكومات بالجمود والانتظار، وحاولت حركات المقاومة سده بأخذ زمام المبادرة. إذا كان النشاط دب أخيراً عند الأميركيين والإسرائيليين لإحياء "عملية السلام"، فهذا يعني أن فعل "المغامرين" استدعى رد الفعل هذا. ومن هنا فإن "فرحة كوندوليزا" يجب أن تكون حقيقية وأن تمد "المعتدلين" بما يقويهم في مواجهة المتطرفين، وبالطبع لابد من التصدي لحوار مع "حماس" أقله من أجل حماية المكاسب المفترقة والمرتقبة، وتجنباً لاقتتال قد يسعى إلى تبديدها.