هنري بيتروسكي لم يكن حادث انهيار جسر "مينابوليس" الذي يربط بين ولايتين ويصل بين ضفتي نهر الميسيسبي متوقعاً من قبل المارين، ولا حتى من قبل المهندسين الذين يبدو أن انهيار الجسر قد أخذهم على حين غرة. لكننا في العادة لا نتوقع أن تسقط الجسور من تحت أقدامنا لذا يبذل المهندسون قصارى جهدهم للتأكد من متانة الجسور وضمان سلامة المواطنين. ومهما يكن الأمر، تبقى الطريقة الأكثر فعالية لتأمين الجسور وتفادي الحوادث المؤسفة هي السعي إلى التنبؤ بالإخفاقات التي قد تطال هيكل الجسور وما قد يترتب عليها من آفات. وهكذا كان على المهندسين أثناء وضعهم لتصميمات الجسر الذي انهار في "مينابوليس" أن يأخذوا بعين الاعتبار المشاكل المحتملة كأن ينكسر أحد الأعمدة الفولاذية ويتزحزح من مكانه، أو يصيبه تلف يؤثر على قدرته في رفع الحمولة الثقيلة التي تعبر الجسر يومياً. ولعله من الأمور المهمة التي لا بد أن ينصرف إليها اهتمام المهندسين هي مراقبة حمولة الجسر ومدى قدرته على تحملها لفترة طويلة. وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأن حمولة أي جسر تنقسم إلى جزءين يتكون الأول من وزن الجسر نفسه، أو ما يسمى بالوزن الميت الذي يشمل هيكل الجسر والأعمدة الفولاذية التي تسنده، فضلاً عن الكتل الخرسانية المكونة له. وحسب المهندسين فإن الوزن الميت للجسور يشكل 80% من الحمولة المتوقع أن يُسمح بمرورها. أما الجزء الثاني من الحمولة فهو ذلك الناتج عن كثافة المرور الذي يمكن نظرياً التحكم فيه من خلال إقامة نقاط للمراقبة وغيرها من الآليات التي يمكن استحداثها لهذا الغرض. ويضاف إلى ذلك العوامل الطبيعية الأخرى مثل سقوط الثلوج وقوة الرياح، فضلاً عن الهزات الأرضية وضرورة مراعاتها من قبل مصممي الجسور. وكلما تم الاهتمام بالمعدات المستخدمة في بناء الجسور من أعمدة وروافع فولاذية زادت متانة الجسور وقلت احتمالات سقوطها. ومع أن المهندسين غالباً ما يلجؤون إلى النماذج الناجحة في بناء الجسور لاستخلاص الدروس واستلهام العبر، تظل نماذج الفشل أفضل معلم لتلافي حدوث الكوارث في المستقبل. وكما تشير إلى ذلك حادثة انهيار جسر "مينابوليس"، فليست كل الهياكل التي تبدو صامدة وتقف في مكانها لعقود خلت دليلاً كافياً على متانتها، أو استبعاد انهيارها. لذا فكلما سقط أحد الجسور، رغم وقوع الضحايا، يمنح ذلك فرصة لدراستها والتعلم من الأخطاء. وبالرجوع إلى التاريخ تطالعنا الكثير من النماذج والأمثلة التي تعرضت فيها الجسور للانهيار والسقوط من أبرزها حادثة انهيار "الجسر الفضي" عام 1967 الذي يقطع نهر أوهايو. فقد انهار الجسر، الذي كان عبارة عن هيكل معدني معلق في الهواء من خلال شبكة من الأعمدة والروافع الفولاذية، فجأة على رؤوس العابرين بعدما ظل ثابتاً في مكانه طيلة 41 عاماً، موقعاً 46 قتيلاً. وعندما أصدرت إدارة الطرق الفيدرالية بعد عام ونصف العام تقريرها حول حادث انهيار "الجسر الفضي" أرجعت الانهيار إلى شرخ كبير ظل غير مرصود في أحد الأعمدة الذي كان يرفع الجسر. ومع استمرار تآكل العمود إضافة إلى الحمولة المتكررة لحركة السير طيلة سنوات طويلة تعمق الشرخ، وهو ما أدى في الأخير إلى تداعي العمود ومن ثم سقوط هيكل الجسر. وبسبب الطبيعة المتشابكة لأعمدة الجسر وتداخلها مع بعضها بعضا، فضلاً عن علوها الشاهق كان من الصعب رصد الشرخ من قبل المارة، أو حتى المراقبين. وبعد الحادث بوقت قصير تم تفكيك جسر آخر على نهر "أوهايو" قبل أن يلقى المصير نفسه. لكن الأهم من ذلك هو صدور قوانين فيدرالية تضع معايير واضحة لمراقبة الجسور ورعايتها والمطالبة بالالتزام بها، علاوة على فرض إجراءات أخرى تتعلق بجميع الجسور في الولايات المتحدة مثل تفكيك ما يٌشك في متانته وتحديد السرعة المسموح بها أثناء القيادة فوق الجسور، ثم وضع معايير محددة للحمولة المسموح بمرورها. وقد تم تعويض "الجسر الفضي" الذي كان مهماً للمواطنين في المنطقة بجسر جديد على طراز ذلك الذي سقط في "مينابوليس". وطيلة العقود التي أعقبت انهيار "الجسر الفضي" سقطت جسور أخرى في العديد من المناطق الأميركية كان أبرزها جسر نهر "ميانوس" عام 1983 وجسر "سكوهاري كريك" بنيويورك عام 1967. وفي كلا الحالتين أُرجع سبب الانهيار إلى التقصير في الالتزام بإجراءات المراقبة والصيانة. ومهما اجتهد المهندسون في دراسة السيناريوهات المحتملة لانهيار الجسور على شاشات الكمبيوتر، لن يتم تفادي الحوادث المؤلمة ما لم يتم الاهتمام بطريقة بنائها والمواد المستخدمة في ذلك، فضلاً عن تشديد إجراءات المراقبة والصيانة. أما الركون إلى المدة الطويلة التي قضاها جسر ما تحت الاستخدام الكثيف والحمولة العالية من دون المراقبة الميدانية فإن ذلك ربما يقود إلى كارثة وإلى سقوط المزيد من الأرواح. ولا شك أن حادثة انهيار جسر "مينابوليس" الأخيرة ستطلق حملة مراقبة تطال الجسور الأميركية والتأكد من مدى سلامتها، إذ رغم الحرج الذي قد يسببه التقرير حول الحادث لبعض الجهات، فإن نتائجه ستكون حاسمة لتفادي أخطاء أخرى في المستقبل. وإذا كان النجاح في بناء الجسور كثيراً ما يقود إلى الغرور ثم الكارثة، فإن الفشل يزرع في النفس التواضع وتوخي المزيد من الحرص والحذر. أستاذ الهندسة المدنية والتاريخ بجامعة "دوك" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"