لماذا حرصت الولايات المتحدة، وما تزال تحرص، على الوصول إلى إجماع وطني عراقي، وعلى قيام حكومة تمثل كافة أطراف الطيف السياسي العراقي, بينما حرصت، وما تزال تحرص، على شق الإجماع الوطني الفلسطيني، ومحاربة أي توافق بين "فتح" و"حماس"؟ المنطق في الحاليْن واحدٌ, نظرياً, وهو أنه لا حل حقيقي من دون أن تكون الأطراف الأساسية منخرطة فيه، ومؤيدة له. أيُّ حل سياسي يستثني أطرافاً أساسية من اللعبة السياسية، هو حل محكوم عليه بالفشل مسبقاً. وهذا التقدير ليس توقعاً ولا محاولة استقراء مستقبلية, بل هو واقع مجرب خلال السنوات الماضية: في العراق كما في فلسطين. من دون أن يتم الاعتراف بالواقع كما هو، وبقواه الأساسية واستراتيجياتها المختلفة وأحياناً المتناقضة, ثم صوْغ آليات للتعامل معه, والدفع باتجاه التقريب, إن لم يكن التوحيد, بين تلك الاستراتيجيات، فإن تضييع الوقت يكون هو الكلمة المفتاحية لفهم كل التحركات و"الزخم" المزعوم إحداثه. تريد الولايات المتحدة, عبر دعوتها لعقد مؤتمر دولي في الخريف المقبل, العودة بالأمور إلى المربع الأول وإعادة إنتاج مسيرة "مدريد" و"أوسلو", خطوة بخطوة: ومن بداية الاتفاق على "إعلان مبادئ". ببساطة بالغة هذا سخف سياسي, لأن إعلان المبادئ سبق وتم الاتفاق عليه قبيل "أوسلو", والمراحل الانتقالية التي ينطوي عليها أيُّ إعلان للمبادئ وما تلاه هي التي قادت إلى الكوارث السياسية والعسكرية والدموية التي شهدناها خلال الأربع عشرة سنة الماضية. وصناع "أوسلو" في الساحة الفلسطينية، وعلى رأسهم الرئيس "أبو مازن" هم أكثر من اكتوْوا بفكرة المراحل الانتقالية وإعلانات المبادئ, فكيف يمكن إعادة تجريب ما هو مُجرَّب؟ ماذا سيتضمن أي إعلان مبادئ جديد غير ما تضمنته عشرات الاتفاقات والإعلانات السابقة؟ فلسطينياً هناك مخاطر كبرى متضمنة في المؤتمر الدولي الذي نشطت واشنطن فجأة لعقده. أول هذه المخاطر هو احتمالية أن يُعقد وأن يشارك فيه الطرف الفلسطيني قبل أن تُعاد صياغة الوضع الفلسطيني على أسس توافقية, وقبل التخلص من حالة الانقسام الشاذة التي نتجت عن سيطرة "حماس" على قطاع غزة بالقوة العسكرية. إذا عُقد المؤتمر وشارك فيه الفلسطينيون، مع استثناء قطاع غزة و"حماس"، فإن ذلك سيكون خطوة إضافية تعزز من الانفصال. يخطئ الفلسطينيون خطأً كبيراً في الذهاب إلى المؤتمر منقسمين, فقد فعلوا ذلك في "مدريد" وما تلاه، والنتائج بادية الآن ولا تحتاج إلى إلقاء ضوء عليها. الخطر الثاني الذي ينطوي عليه هذا المؤتمر هو اختزاله في تمرين علاقات عامة ودعاية هدفها إظهار الولايات المتحدة بمظهر من يحاول فعل الشيء الكثير للقضية الفلسطينية, دحضاً لما تتهم به في أوساط الرأي العام العربي والعالمي. فالدلائل التي بين أيدينا لا تشير إلى أنه سيكون غير ذلك. فليس هناك تراكم سياسي أو تراكم توافقات إسرائيلية- فلسطينية ستتوج في المؤتمر حيث يتم إعلان التوصل لـ"حل نهائي". أي أن المؤتمر لن يكون نهاية لجهد سابق عليه. أقصى ما قد يكونه، هو أن يكون بداية لجهد لاحق عليه, جهد يعيد استنساخ مفاوضات واشنطن و"أوسلو" ويحاول إعادة اختراع العجلة. مكمن الخطر الثالث في المؤتمر هو اندراجه في مسعى أميركي استراتيجي لمواجهة إيران، وليس لحل القضية الفلسطينية. وهذا يعني أن مسألة الاستجابة للحقوق الفلسطينية الدنيا، ومعالجة القضايا الرئيسية كالحدود والقدس والاستيطان واللاجئين، ستكون هامشية وأقرب إلى تمارين العلاقات العامة منها إلى الجدية. ويتأكد هذا من واقع ضعف الحكومة الإسرائيلية الحالية ورفضها الأوَّلي لمناقشة قضايا الحل النهائي في المؤتمر, والشك العميق في قدرتها على تبني أو فرض أي حل سياسي يقوم حقاً على مفهوم الدولتين. هذه القضايا هي عنوان أي حل، وهي ليست أموراً هامشية يمكن القفز عليها. كما أن رفض سوريا للمؤتمر وغيابها المتوقع عنه يؤكد هو الآخر أن الاجتماع يأتي متسقاً مع ترسيخ الانقسام الإقليمي الحالي بين دول معتدلة ودول متشددة, وعلاقته بحل القضية الفلسطينية دعائية أكثر منها حقيقية. الأمر الرابع الخطير هو استهداف إسرائيل لمبادرة السلام العربية وجعلها السقف الجديد للموقف العربي، لكن من دون أن يلتزم الطرف الإسرائيلي بما تنص عليه المبادرة من مطالبات. بمعنى آخر، يكون هدف إسرائيل من وراء المؤتمر هو الانفتاح سياسياً على بعض الدول العربية المهمة (وفي مقدمتها السعودية راعية المبادرة ودول الخليج), لكن من دون أي مقابل. ومن الواضح, كما تشير تحركات وضغوط الدبلوماسية الأميركية, أن واشنطن بالغة الحرص على أن تكون دول الخليج قاطبة ممثلة في هذا المؤتمر وأحد أطرافه الرئيسة. لكن بالعودة إلى أولوية وضرورة توحيد الموقف والبرنامج السياسي الفلسطيني قبل انعقاد المؤتمر فإن هذه مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى. وهذا التوحيد المطلوب ليس ملحاً لأن ثمة مشاركة فلسطينية في ذلك المؤتمر, إذ على الغالب الأعم لن يقدِّم شكل المشاركة أو يؤخر الشيء الكثير في إنجاح أو إفشال المؤتمر. بل هو توحيد مصيري دوافعه لا علاقة لها بالمؤتمر, وهو أهم وأخطر من هذا المؤتمر وغيره. لكن النقطة التي لها علاقة بالنقاش هنا هي أن انعقاد المؤتمر على خلفية الانقسام الفلسطيني يعني مزيداً من التفتت بين الفلسطينيين, ومزيداً من الانشطار الضفاوي (الفتحاوي) الغزاوي (الحمساوي). وبكلمة أخرى يمكن القول إن الفلسطينيين قد لا يحققون الشيء الكثير من حضور المؤتمر موحَّدين, لكنهم سيخسرون الكثير إن حضروه مفتتين. حضور الفلسطينيين ممثلين بالرئيس "أبو مازن" وحكومة الطوارئ, سوف يُفاقم من استفزاز "حماس" وحكومتها المُقالة, خاصة في ضوء الدعم الدولي المتوقع زيادته لحكومة الطوارئ. وإذا عاد الفلسطينيون إلى تقاليد تنظيماتهم الحزبية التي تقدم الوحدة التنظيمية على المكسب الخارجي أو الاستراتيجي فإنهم يدركون أن الجهد الحقيقي والمطلوب بذله في الوقت الحاضر, سراً وعلناً وعبر كل القنوات, هو كيفية لأم الانفصام الضفاوي الغزاوي, وإعادة توحيد "جناحي الوطن". هذا بفرض أن المؤتمر المذكور سيحمل أي مكسب للفلسطينيين, وهي فرضية مشكوك فيها أصلاً. إذا حصل شبه المعجزة وتم التوصل إلى صيغة توافق وطني بين "فتح" و"حماس" بشكل رئيسي ثم بقية الأطراف والفصائل الفلسطينية, عندها يمكن أن يتسم الموقف الفلسطيني في المؤتمر المقترح وغيره ببعض القوة والقدرة على المناورة. فحينئذٍ يمكن للفلسطينيين أن يستثمروا الوضع الدولي والإقليمي الضاغط على الولايات المتحدة من أجل فرض حل معقول منطلق من قناعة لا تني تتسع يومياً وهي أنه من دون حل القضية الفلسطينية فإن هذه المنطقة من العالم, ومناطق مجاورة, وأخرى غير مجاورة, لن تنعم بالاستقرار ولا بالتنمية.