ليس المستبدُّ، حسب تجاربنا السياسيّة المتراكمة في المشرق العربيِّ، مَن تستيقظ حياله حساسيّتنا الجمعيّة، أي "الجماهيريّة" حسب اللغة الدارجة. فالغريب وحده هو من يوقظها ويستفزُّها. ذاك أن السلطان عبدالحميد، أحد أبرز رموز الاستبداد العثمانيّ وغير العثمانيّ، ذِكرُه طيّبٌ لدينا وعبيره لا يزال في أنوفنا إذ لم يبعْ، ولا أجَّر، أرضاً لليهود في فلسطين. وهو، فوق هذا، حافظ على وحدة السلطنة التي أرادها حاجزاً في وجه امتداد الغرب إلى الشرق. أما انقلابه على الدستور، وهو ما أسَّس به "تقليداً" سارت على هديه أعداد من الضبّاط العسكريّين العرب والأتراك، فلم يستوقف ولم يسترع الانتباه. صحيحٌ أن مثقّفين كوليِّ الدين يكن وإصلاحيّين ودستوريِّين كمدحت باشا، مهندس الدستور الأوّل، كرهوا عبدالحميد وتحسّسوا ظلمه وندَّدوا به، بعدما نُفي بعضهم إلى الخارج في مصر أو فرنسا. غير أن حساسيّة هؤلاء ظلّت نخبويّة وأقليّة الطابع، شذبتها الصلة بالغرب ومنحتها لغتها وأدواتها التعبيريّة. وكان المعلّم الدستوريّ و"أستاذ الجيل" أحمد لطفي السيّد، كبير "الحرِّيّين" المصريّين والعرب، حسب التعبير الذي سكّه هو نفسه، قد عوقب على ميوله تلك، فانكفأت عنه "الجماهير" واتّجهت نحو مصطفى كامل ومحمّد فريد اللذين استحوذ عليهما قتال الغريب البريطانيِّ ولو تحت راية سلطان بني عثمان. ومن مدينة الإسماعيليّة المصريّة، حيث مقرّ قيادة الجيش البريطانيّ ونقطة تركّز الإرساليّات المسيحيّة الغربيّة في العشرينيات، انطلق حسن البنّا، عام 1928، مؤسّساً إخوانه المسلمين الذين يوقّرون الملك والعرش ويؤكّدون على طاعة الأبناء لـ"آبائهم". وفي "حادثة" 4 فبراير 1942 الشهيرة، شكّل "الإخوان"، فضلاً عن بعض المشايخ والساسة المحافظين، أعمدة الحلف الذي يقوده العاهل المصريّ في مواجهة البريطانيّين. ولاحقاً، عندما استطاع جمال عبدالناصر إطاحة محمّد نجيب، أوّل رئيس لمصر الجمهوريّة، في ما عُرف بأزمة مارس 1954، أطاحه بشعار "تسقط الحريّة" الذي رفعه يومها نقابيّون شعبويُّون وجمهرة عقدت مبكراً صلات وصل تبعيّة مع أجهزة الجيش والمخابرات. ذاك أن نجيب، وكما بات معروفاً جيّداً، أُخذت عليه دعوته الديمقراطيّة الآيلة إلى تحرير الحياة الحزبيّة من العسكر وإرجاعهم إلى ثكناتهم، مقابل الترخيص للشيوعيّين و"الإخوان المسلمين" وسائر القوى التي لا تحظى بحقّ العمل الشرعيّ. أما عبدالناصر، من الجهة الأخرى، فمثّل الدعوة الصريحة إلى حلّ الأحزاب وتعطيل الحياة السياسيّة والعمل بالدستور، فضلاً عن إبقاء السلطة في أيدي العسكريّين، وفي يده شخصيّاً. وفي سوريّا، ذهب ميشيل عفلق، في بعثه العربيّ الذي أسّسه رسميّاً عام 1947، إلى أن "الحريّة" حريّة الأمّة قبل أن تكون حريّة الأفراد بالمعنى الغربيّ للكلمة. ولقي الحزب جاذبيّة لم تحظ بمثلها الأحزاب البرلمانيّة التي بدت كهلة ومتعبة، لاسيّما بعد اندماج "البعث العربيّ" و"الحزب العربيّ الاشتراكيّ" بقيادة أكرم الحوراني، مطالع الخمسينيات. واستناداً إلى ذاك الفهم لـ"الحريّة"، شارك الضبّاط البعثيّون في معظم الانقلابات العسكريّة التي تعاقبت على بلادهم إلى أن استولوا، عام 1963، على سوريا كلّيّاً. في هذه الغضون، ونظراً إلى انعدام أيّة لغة تنقل الهمّ الديمقراطيّ بذاته، وانعدام كلّ وعي يعكسه مُسمّياً الأشياء بأسمائها، لم يجد أبناء الأقليّات المتذمّرون من الاستبداد الأكثريّ، والبرِمون به، ما يعادل تذمُّرهم وينقله. وهكذا حاروا وداوروا مستعيرين لغة الأكثريّة في رفض الغريب والحضِّ على مقاومته. وفي المعنى هذا كُتب على عفلق في سوريّا، ولكنْ أيضاً على أنطون سعادة في لبنان قبله، وعلى جورج حبش في فلسطين بعده، أن يؤسِّسوا بعض أكثر الأحزاب تعصُّباً في نزعتها القوميّة الكارهة للغريب والمحبِّذة للطغيان. ولئن مرّ ثلاثون عاماً على تولّي حافظ الأسد رئاسة الجمهوريّة في سوريا، بقي مدهشاً أن الاستبداد الذي أوقعه بشعبه لم يكن كافياً، إلا عند معارضيه السوريّين، لإخراج اسمه من قائمة "أبطال القوميّة العربيّة والتصدّي لإسرائيل". وفي العراق، وفي معنى مماثل، يُذكر كم حظي صدّام حسين، ولا يزال يحظى، بالتسامح مع مجازره حيال الأكراد والشيعة وبعض السُّنة، أو على الأقلّ بغضّ النظر عنها، لأنه، كما زُعم ولا يزال يُزعم، "الفارس" العربيّ الذي يقاوم الولايات المتّحدة وإسرائيل. لكنْ قبل صدّام بعقود، كانت حماسة العراقيّين قد التهبت، عام 1941، لانقلاب رشيد عالي الكيلاني وضبّاط "المربّع الذهبيّ" على الحكم البريطانيّ، على رغم العواطف والروابط التي شدّت هؤلاء إلى النازيّة الألمانيّة. كذلك غُضّ النظر عن مواقف آية الله الخميني من المرأة والإصلاح الزراعيّ و"ولاية الفقيه" وقمع الحريّات على عمومها، لمجرّد أنه ناوأ "الشيطان الأكبر" وافتتح عهده بالاستيلاء على سفارته واحتجاز رعاياها. ولم تعرْ إلا قلّة ضئيلة من الإيرانيّين والعرب اهتمامهم للاجتثاث المبكر الذي تعرّض له بعض القادة المدنيّين للثورة الإيرانيّة، كالمهدي بازركان وإبراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر، ممن داعبتهم فكرة الدمج بين الإسلام والليبراليّة الدستوريّة. وتلك جميعاً إشارات لا تخطئ إلى مفاصل أساسيّة في تاريخنا الحديث ذهب فيها التفضيل لاحترام "الأب" وتمجيده على كلّ اعتبار آخر، بما في ذلك حريّة "الأبناء" وتفتّحهم. حتّى قضيّة فلسطين التي احتلّت ما احتلّته من جهد سياسيّ وعسكريّ وثقافيّ، لم تدفع الفلسطينيّين والعرب إلى أيّ جهد يتعدَّى الصفحات الدعائيّة القليلة عن صورة فلسطين في حال حصول التحرير أو قيام الدولة. فالصراع مع الغريب لم يترك فسحة، مُطلق فسحة، للعناية بالنظام السياسيّ والاجتماعيّ وبالظروف الأفضل التي ينبغي توفيرها للمواطن وحريّاته. ويقال الشيء نفسه، ولو في سياق مختلف نسبيّاً، عن الاستعداد الواسع لدى قطاعات عريضة فينا للصفح عن أعمال "القاعدة"، كي لا نقول التهليل لها. وهذا الشريط الذي امتدّ من التعامل مع فظيعة 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن وصولاً إلى الصمت عن ضلوع سبعة أطبّاء وتلامذة طبّ مسلمين في نشاط إرهابيّ ببريطانيا، ومثله ضعف اعتراضنا على خطف الرعايا الأجانب في بلداننا، إنما يجزم بأن أذيَّة الغريب تعلو لدينا على كلّ اعتبار آخر. فلا الطبيعة القروسطيّة لـ"القاعدة"، ولا التقنيّات البدائيّة لأعمال القتل التي ترتكبها، ولا همجيّة خطف المدنيّين، ولا "صورتنا" في العالم الخارجيّ، بالأمور التي تزن قياساً بوزن الحماسة لمقاتلة الغريب والنيل منه. والراهن أن "القاعدة" نفسها، أقلّه في بحثها هي عن مبرّرات وجودها وتوسيع الدعم له والتعبئة حوله، لا تكفّ عن رفع محاربة الأجانب ("الصليبيّين" و"اليهود" و"الكفّار"، حسب قاموسها) إلى سويّة السبب الأهمّ والأوّل. وسقيمٌ جدّاً تكرارنا، في معرض تفسير هذه الظاهرات، أننا نخوض حروباً وطنيّة أو قوميّة أو دينيّة. ذاك أن عرب المشرق ليسوا الوحيدين على هذا الكوكب الذين خاضوا، ويخوضون، حروباً على الشاكلة تلك، لكن أحداً غيرهم لم يذهب مذهبهم هذا، والذين فعلوا لم يبلغوا فيه ما بلغناه إطلاقاً. ثم إن الأحرى في من يحرص على مصالح أهله وجماعته، أكان تعريفهما وطنيّاً أم قوميّاً أم دينيّاً، أن يدافع عن حقّهم في حياة أفضل وحريّات أوسع. وهو دفاع لابدّ أن يتّجه ضدّ المستبدّ المحليّ، فيعطي الصراع ضدّ الغريب مصداقيّة لا تتوافر إطلاقاً في الشروط الحاليّة. وأغلب الظنّ أن الاعوجاج المذكور، فضلاً عن اتّصاله بأسباب تاريخيّة وثقافيّة لا تتّسع لها العجالة هذه، يستمدّ نسغه من فشلنا، أنظمةً ومجتمعات، في التعامل مع مشكلاتنا المُلحّة والقاهرة. فأمام فشل كهذا، وهو متواصل منذ بواكير احتكاكنا بالعالم الحديث، يسود الهروب إلى مقاتلة الغريب ("الامبرياليّ" مرّة و"الصليبيّ" مرّة أخرى وهكذا دواليك). وهو هروب سهل، في آخر المطاف، بغضّ النظر عن أكلافه الباهظة.