أقر الكونجرس الأميركي قانوناً يقضي بتحديث قانون "التنصت الاستخباراتي الخارجي" الصادر عام 1978، حيث صوت مجلس النوَّاب الأميركي بأغلبية 227 مقابل 183 صوتاً، بعد أن أقره مجلس الشيوخ بأغلبية 60 صوتاً مقابل 28. مشروع قانون التنصت كان الرئيس جورج بوش قد قدمه، ومارس ضغوطات لإقراره قائلاً:"إن حماية أميركا هي الالتزام الأكثر قداسة بالنسبة لنا"، ويسمح للحكومة بالتنصت على الأجانب الذين يجرون اتصالات عبر الولايات المتحدة من دون موافقة مسبقة من القضاء. وبتصديق مشروع القانون من الكونجرس لا يبقى إلا توقيع الرئيس الأميركي ليصبح قانوناً نافذاً. قضية التعارض بين متطلبات الأمن الداخلي وحريات الإنسان وحقوقه الأساسية ظلت لسنوات محل تداول أكاديمي بحت، وظلت مسألة الرقابة بشكلها البسيط، وهو كاميرا المراقبة الموضوعة لأسباب أمنية وحمائية في المتاجر والشوارع تثير حفيظة جمعيات حماية الحريات المدنية، لكن لم يخرج جوهر هذا النقاش إلى الرأي العام إلا بعد إرهاب الحادي عشر من سبتمبر 2001، فطرحت معادلة الأمن مقابل الحريات المدنية كنتيجة مباشرة لاختراق أمن القوى العظمى، وبدت هذه الصيغة في التمدد من الولايات المتحدة الأميركية إلى الدول الأوروبية إلى أكثر الدول تسلطاً، وأصبحت محاربة الإرهاب ذريعة من لا ذريعة له لحرب المعارضة السياسية الإسلامية حتى وإن كان طرحها السياسي لا يتطابق مع الأطروحات السياسية المتطرفة. ومع ذلك ظلت منظمات حماية الحريات المدنية ناشطة في أميركا تهاجم وتحارب توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية في مقابل تقليص الحريات المدنية، ومعه بدأت الحكومات في توسيع صلاحياتها الأمنية حتى في أكثر الدول ديمقراطية، فذريعة الأمن الوطني لا تقف أمامها أي معارضة شعبية خاصة مع تأجيج المخاوف الشعبية من الإرهاب السياسي الإسلامي الذي أصبح معه "الاسلاموفوبيا" حقيقة معاشة لا مصطلحاً أكاديمياً، وأخذت الدول في زيادة الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية خاصة في قضايا كالاعتقال القسري واستخدام الأدلة السرية في محاكمة المشتبه في انتمائهم لشبكات إرهابية والرقابة والتفتيش حتى غدت خروقات حقوق الإنسان "الإرهابي" متفهَمة ومتقَبلة حتى من قبل بعض الجمعيات التي يُفترض أنها تدافع عن حقوق الإنسان وحرياته، فغضت بعضها الطرف لأسباب أمنية. وتجدر الإشارة إلى أنه في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر كان الرئيس الأميركي، قد وقع على أمر رئاسي سري يسمح فيه لوكالة الأمن القومي بالتنصت على المكالمات الهاتفية الدولية والرسائل الإلكترونية للأجانب المقيمين داخل الولايات المتحدة ومن يشتبه في أنهم إرهابيون في الخارج من دون إذن من القضاء. لم يعد موضوع التنصت والتجسس على الشعوب موضوعاً مطوياً في أجهزة الاستخبارات، فالحرب على الإرهاب فتحت المجال حتى لنشر معلومات تتحدث عن قيام أجهزة الاستخبارات الأميركية بالتنصت بواسطة محطات تنصت محمولة على طائرات وأقمار اصطناعية على خطوط هواتف وإنترنت دولية ومحلية، إضافة إلى مراقبة تامة لكافة التحويلات المالية في كافة أنحاء العالم، وأشارت تقارير إخبارية إلى قيام شركات الكمبيوتر بتسلم الكود الأمني لكل جهاز أو برنامج كمبيوتر تبيعه لأجهزة المخابرات الأميركية، لقد عارضت منظمات الحقوق المدنية الأميركية قانون التنصت وحاربت الإجراءات الأمنية الأميركية المتخذة بعد الحادي عشر من سبتمبر، لكن سرعان ما تم إسكات الأصوات المغردة خارج السرب، فلا صوت يعلو على صوت المعركة والأمن الوطني أولاً وأخيراً. اليوم تتجه دول العالم كافة من ديمقراطيات إلى ديكتاتوريات نحو منح أجهزتها الأمنية المزيد والمزيد من الصلاحيات في ممارسة الرقابة بما فيها خرق كافة المواد الدستورية التي تحمي الحياة الخاصة والخصوصية لمواطنيها، فتشريع الرقابة هو قفزة للوراء والأخطر من كل ذلك أنه خطوة مستقاة من الأنظمة الشمولية وديكتاتوريات العالم الثالث ذات الخبرة الواسعة في مجال التنصت والمراقبة كأدوات مسلطة حكومياً في وجه المعارضة أو من يشتبه في انتمائه للمعارضة أو من لا تتناغم ممارساته وآرائه مع القائمين على هذه الأجهزة حتى لو لم تتعارض مع السياسات الحكومية، وتلك خطورة تشريع التنصت، فممارسات دكتاتوريات العالم الثالث معروفة ومتقبلة نوعاً ما كجزئيات في أنظمة لا تستند للقانون ولا الحقوق المدنية ولا لمنظمات مجتمع مدني فاعلة، فهي ممارسات معتادة في ظل ثقافة من التسلط اعتادت على هذه الممارسات لا تحتاج بالضرورة لمبررات كالأمن الوطني أو محاربة الإرهاب لإقرارها أو حتى لتشريعها. إن معادلة الأمن والحريات من أصعب المعادلات التي تواجه كل حريص على أمن وطنه وفي الوقت نفسه على كفالة الحريات والحقوق المدنية التي مرت بتطورات وعبرت بصورتها الحالية عن تضحيات يجب ألا يتم التنازل عنها، وهي إشكالية حقيقية تواجه كافة المدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني، فالأمن والإجراءات الأمنية التي تهدف لسلامة الشعوب ليست بحجة، لكنها مطلب تحاسب عليه الحكومات، وانتهاك أمن الإنسان وانتهاك حياته يندرج ضمن الممارسات الإرهابية ترفضها كافة الشعوب في العالم، وما شرعت هذه الديمقراطيات في التنصت والإجراءات الأمنية إلا بعد عمليات إرهابية استهدفت مواطنيها، لكنها اليوم حجة مناسبة ومقبولة لتوسيع الصلاحيات وتقليص الحريات المدنية والشخصية، فباسم الأمن ارتكبت وسترتكب ممارسات حكومية كانت تعد، ولوقت قصير مضى، انتهاكات جسيمة لحقوق وحريات الإنسان، والأخطر من كل ذلك أن ما كان يعد نماذج ومنارات تسترشد بها شعوب الدول الساعية لدمقرطة مجتمعاتها ولتعزيز حرياتها، أصبح محل تساؤل ونقاش. إن الحكومات في العالم والحركات الإرهابية تمارس كلاهما عنفاً خاصاً بها، ودائرة العنف المشروع وغير المشروع تبدأ من نقطة تنتهي بها في دائرة من العنف والعنف المضاد، وذلك بعد قرابة ست سنوات على أحداث الحادي من سبتمبر، وبعد سلسلة عمليات إرهابية ضربت إسبانيا وبريطانيا والمغرب والسعودية وغيرها تنسب بالإجمال لجماعات إسلامية متشددة أو لفكر إسلامي إرهابي يستند لشبكات نائمة ومستيقظة تضرب هنا وهناك، في حرب دائرة ضحيتها الأولى حقوق الإنسان وحرياته.