"القابلية للعنف" مصطلح أريد من خلاله التركيز على المكونات والبيئة التي تنتج العنف أو على الأقل تخلق له المناخ الذي يسمح له بالنموّ والتكاثر، وظاهرة العنف في السعودية وفي غيرها هي ظاهرة تستحق الدراسة بشكل علمي ودقيق لتجميع الخيوط، التي ساهمت في صناعتها وتكررها في المجتمع السعودي وغيره. والظواهر الكبرى في المجتمعات كظاهرة العنف، تحتاج قبل ممارسة الإدانة إلى محاولة القراءة والفهم، فالظاهرة العنفية ليست فعلاً مادياً فحسب يتمثل في لحظة وقوع عملية العنف المادي من قتل أو تفجير أو تدمير، ولكنها قبل ذلك وبعده امتداد ثقافي ديني اجتماعي سياسي اقتصادي، بمعنى أنها "خطاب" بالمعنى الشامل للكلمة. يحاول كاتب هذه الحروف أن يرصد هذه الظاهرة بشكل يتوخى العلمية والموضوعية في رصد أسبابها وشيء من تاريخها وتتبع تطورها وواقعها المعيش اليوم، ذلك أنني على قناعة بأننا "لا نستطيع أن نفهم جيّداً قضية ما إلا إذا تتبعنا تاريخها" كما كان يقول الفيلسوف الألماني الكبير"كانط" مدخل إلى السوسيولوجيا ص15. غير أنّ السؤال الذي ينبغي أن يكون في البداية هو السؤال عن مفهوم "القيم" الذي نحاول إضافته للبداوة، ولتحديد مفهوم القيم فثمة تعريفات متعددة بحسب زاوية النظر إليه، وبحسب العلم والمجال الذي يستخدم فيه، ولكن فيما يتعلق بالمجال الاجتماعي الذي نتحدث عنه، فإن "القيم ليست شيئاً أكثر من أفضليات جماعية تظهر في وضع مؤسساتي وتساهم بطريقة تكونها في تنظيم هذا الوضع... وأنها تلزم هؤلاء الذين ينتمون إليها" حسب ما جاء في المعجم النقدي لعلوم الاجتماع ص451. إذا فنحن نتحدث عن مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والأساطير وغيرها من الموروثات التي تشكل مع بعضها منظومة أو نظاماً متكاملاً للقيم، مع اعترافنا –منذ البداية- بما يقرره علماء الاجتماع من أن "مشكلة التعميم ما زالت هي آفة العلوم الاجتماعية والإنسانية" علم الاجتماع البدوي ص38. إن القيم بطبيعتها ذات تشعبات كثيرة، وذات اتجاهات متناقضة في أحيان كثيرة فهي في مجموعها تشتمل على الحسن والقبيح، وفي الحسن نفسه يدخل تحتها الحسن والأحسن، وعلى الجهة الأخرى ثمة قبيح وأقبح، ولذلك فنحن لا نتحدث هنا عن مجمل القيم البدوية وإنما نتحدث عن ذلك الجزء منها الذي كان له دور وساهم – مع أجزاء أخرى من جهات أخرى- في صناعة الظاهرة ، فلا يمكن أن يفهم أحد من هكذا حديث أنه إلقاء للتهمة على مجمل القيم البدوية أو أنه يتخذ موقفاً جامداً منها كمجموع، فمن ينتقد قيمة أخذ الحق بالقوة، وقيمة احتقار الخصوم والتمجّد بظلمهم والعدوان عليهم ليس كمن يتحدث عن قيمة الكرم والشجاعة الرائعتين على سبيل المثال لا الحصر. في الحديث عن القيم البدوية – تحديداً- نستطيع النزوع إلى الدخول في التفاصيل الصغيرة حيث أن بعض القيم البدوية تختلف من بلد إلى آخر ومن قبيلة إلى أخرى، بل وداخل القبيلة نفسها من بطن إلى بطن، حتى نصل لمستوى العوائل والأسر، ونستطيع ممارسة العكس حيث الميل إلى رصد المشتركات الكبرى التي توجد لدى كل أو أغلب الفئات الداخلة في نطاق البحث والطريقة الأخيرة هي الطريقة الأجدى في الوصول لنتيجة علمية في مجال بحثنا، وذلك مع التأكيد على أنه ليس المقصود -بحال- ازدراء "القيم البدوية" كمجموع أو لمجرد أنها بدوية، بل إن في القيم البدوية كما يعلم الجميع الكثير من الفضائل الأخلاقية والإنسانية التي تجمعها خصال المروءة والفتوة من كرم وشجاعة وإيثار ونجدة ونحوها، "ومهما يكن من أمر يجمل البدوي صفات حقيقية هي الإنسانية والفروسية والشهامة، وهناك منذ أقدم الأزمنة حكايات وأساطير لا عدّ لها حول خصائصه هذه" كما جاء في كتاب البدو 1/83 لماكس فرايهير فون أوبنهايم. كيف لا وعمر بن الخطاب يقول في وصيته:"وأوصيكم بالأعراب فإنهم أهلكم ومادتكم وإخوانكم وعدو عدوكم، وهم أصل العرب ومادة الإسلام"، لذا فإن المقصود هنا لا يتعدى التركيز على جملة من القيم البدوية التي كان لها أثر في خلق ظاهرة العنف، وهي قيمٌ ذات بعدٍ سلبيٍ ظاهر. "فالبدو عند ابن خلدون شجعان ولكنهم يعيشون على نهب أموال غيرهم من الناس بدواً كانوا أم حضراً، وهم على خلق ولكنهم قطّاع طرق، وهم أهل خير ومروءة ولكنهم سفاحون يعشقون الحرب وسفك الدماء، وهم أهل فطرة يبغضون الابتذال والتسفل ولكنهم ليسوا أهل علم ولا فن، وهم أهل شرف ويهبون أرواحهم لنجدة المرأة وحماية شرفها ولكنهم يعيشون من كدها وعلى ما تقوم به من أعمال، وهم يحتقرون كل عمل يدوي ويحقرونه، كما يحقرون ممارسيه، ويسبون الزراعة والفلاحة والفلاحين، ولكنهم حتى يعيشوا لا يتورعون عن نهب خيرات تلك الزراعة أو الفلاحة رغم حقارتهما"علم الاجتماع البدوي ص34. ويزيد هذا التناقض في القيم البدوية إيضاحاً "هيردر" بقوله "لا يزال الأعراب محافظين على طبائع أسلافهم البدوية، وهم على ما في الأضداد من غرابة، يتصفون بسفك الدماء وحقنها، وباعتقاد الخرافات وردّها، وبالإيمان والإلحاد، وهم على ما يظهر ذوو فتوة خالدة يقدرون بها على القيام بجليل الأعمال عندما يؤمنون بمبدأ جديد"، وذلك حسب ما نقله عنه جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب ص72. ويعيد "ديفرجه" نفس الفكرة بقوله "قد يكون أظهر ما في الأعراب هو أنهم جماع الأضداد، فالنهب والكرم، والسلب والجود، والقسوة والنبل"، وهو ما يؤكده المستشرق "ماكس فرايهير فون أوبنهايم" في مجلداته الخمسة التي سعى من خلالها لنقل تجربته الذاتيه مع البدو في فترة زمنية طويلة نسبياً، وذلك بقوله في كتابه "البدو" عن الصفات التي نحن بصدد رصدها هنا "إن السمات الملازمة لحياة البدوي هي الحاضنة التي تطورت فيها أكثر رذائله الأساسية: أعني ريبته، وطمعه غير المحدود، وغضبه السريع الاشتعال، وانزلاقه السريع إلى العنف" البدو 1/89. كما يؤكد علي الوردي عالم الاجتماع العراقي الكبير أننا "حين ندرس البداوة قديماً وحديثاً نجد فيها من صفات الصدق والصراحة والعفة والوفاء والشهامة والكرم ما يندر أن نجد مثله في أهل الحضارات المجاورة، ولكن المشكلة أن هذه الصفات الحسنة ليست إلا جانباً واحداً من القيم البدوية، وهناك الجانب الآخر الذي يتمثل في احترام النهب والتخريب واحتقار العلم والصناعة... والبدوي كذلك يفتخر بالقتل والغزو والنهب"، في كتاب الوردي منطق ابن خلدون ص256. ولهذه الصفات فإن البدو -حسب الوردي- يعتقدون "أن رزقهم في رماحهم"، ومن الأمثال الشعبية المتداولة العراق الذي يتحدث عنه الوردي قولهم في الأمثال القبلية "الشائعة اليوم لدى البدو قولهم: الحق بالسيف والعاجز يريد شهودا، وكذلك قولهم: الحلال ما حل باليد، ومن يجلس إليهم يستمع إلى أحاديثهم يجد أنهم يقيسون الرجولة الكاملة بمقياس الغلبة والاستحواذ". ما تثبته هذه النقول هو وجود بذرة العنف كقيمة أخلاقية لدى البدو، وأن هذه القيمة جزء راسخ في مجمل منظومة القيم البدويّة، ولكن السؤال هل هذه القيم محصورة في البدو دون الحضر أم أنها قيمٌ مشتركةٌ بين الطرفين؟ ثم ما هي علاقة الإسلام بهذه القيم؟ وماهو تأثير هذه القيم على المسيحية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المقال القادم.يتبع.