إنّ الذي أعتقده أنّ "حماس" نجحت في أمرٍ هو أهمُّ من استيلائها على غزة (من يد السلطة الفلسطينية وليس من يد إسرائيل!) وهذا الأمر هو أنّ الإسفافَ المتبادَل كرَّهَنا في سَماع الطرفين، وأفقدنا الثقة بهما. فقد استمعتُ أخيراً إلى المؤتمر الصحفي لمحمود الزهّار القيادي بـ"حماس"، يتحدث فيه بـ"الوثائق" عن فساد أجهزة الأمن والحدود والمعابر تحت سلطة أبو مازن. وكان هذا الفيلم هو العاشر أو الحادي عشر في سلسلة الأفلام ضد "فتح" أبو مازن، وهي تنصبُّ على أمرين: الفساد الإداري والمالي، والعمل مع إسرائيل (= التصهْيُن، بتعبير متحدِّثي "حماس"). أمّا الفتحاويون وأهل سلطة أبو مازن فيجيبون باتِّهام "حماس" بثلاث تُهَم : قتل الفلسطينيين الآخَرين، والانقلاب على الشرعية، والعمالة لإيران وسوريا. وإذا كان محمد دحلان هو رَمْزُ "الشر" والخيانة في نظر الدعاية الحماسية؛ فإنّ "القوة التنفيذية" (وهي الميليشيا التابعة لـ"حماس" والتي حوَّلت جزءاً منها بعد تشكيلها لحكومتها الأولى على أثر الفوز في الانتخابات، إلى شرطة!) في نظر أنصار "فتح" والسلطة هي رأسُ الشرِّ وسنامُه! وكما سبق القول؛ لكثرة ما تكررت هذه الأوصاف والشتائم المبتذلة والمتبادَلة، فإنها وصلت كما يقال إلى "ما وراء الخير والشرِّ". ولأنني ما كنتُ أستمعُ إلى دعايات "حماس"، فالذي جَدَّ عليَّ أنني ما عُدْتُ أستمعُ إلى كلام "مناضلي" حركة "فتح"، وسياسييها. على أنّ هذا القَرَفَ العربيَّ من جهة، والاستقطاب من جهةٍ أُخرى، مُضِرٌّ بالقضية الفلسطينية أكثر من ضرره بالعراق. ففي العراق اختلطت الأُمورُ تماماً بعد سنتين على الغزو الأميركي، وما عاد الرأي العامُّ العربي يؤثّر أو يتأثر إلاّ على سبيل التقزُّز والإحساس بالعجز إزاءَ ما يجري. أمّا في فلسطين فالأَمْرُ مختلف. فقد اعتدْنا خلال العقود الأربعة الماضية على الوقوف مع منظمة التحرير دائماً، وليس في وجه إسرائيل فقط؛ بل وفي وجه هذا النظام العربي أو ذاك، إذا حاول النَّيلَ من وحدة "فتح" أو سُمعة ياسر عرفات، حتى لو لم نكن موافقين على طرائق الدخول في التفاوُض مع إسرائيل، أو طرائق العلاقة بالولايات المتحدة. بيد أنّ صعودَ الإسلام السياسي المُسلَّح في فلسطين من خلال "حماس" و"الجهاد"، وانفجار الخلاف مع "فتح" في السنوات الثلاث الأخيرة، دفع كثيرين إلى الإعراض عن قضية فلسطين كلّها. فحتى لو لم يكن بعضُنا مُوافقاً على تصرفات الفتحاويين، أو طريقة أبو مازن في ممارسة السلطة؛ فإنّ أيَّ عاقلٍ لا يوافق على قتل أنصار "فتح" أو أعضاء الأجهزة الأمنية معنوياً ثم مادياً. ولذلك، فالذي أراهُ أنّ هذا الخطاب الانقسامي المستجدَّ، والذي يصطفُّ من حول طَرَفيه الشعبُ الفلسطيني، يُفقدُ القضية الفلسطينية، وللمرة الأولى، اهتمام الرأْي العامِّ العربي، بسبب السُخْط على الانقسام، بغضِّ النظر عن المُسيء والأقلّ إساءة. لكنّ هذا "الانحطاط" الشديد الأضرار بقضية فلسطين، لا يُقارَنُ رغم فظاعته، بـ"الخطاب" أو الخطابات في العراق، رغم أنّ الرأي العامَّ العربيَّ ما عاد يؤثر أو يتأثر بما يجري هناك. فالأحزابُ السياسيةُ بالعراق، وبعد أربع سنواتٍ على الغزو الأميركي، وثلاث سنوات ونيّف على بدء العملية السياسية، تجلّت عن كياناتٍ وشراذم طائفية وإثنية: سُنة، وشيعة، وأكراد. عند الفلسطينيين ما تزال للخلافات الإجرامية أسبابٌ سياسيةٌ وسلطوية واضحة. أمّا لدى العراقيين فهي الحربُ الأهليةُ بعينها، ولأسبابٍ طائفيةٍ وإثنية، تتقدم أحياناً على الاعتبارات السياسية أو لِنَقُلْ إنّ المطامح والمطامع السياسية والمالية والإجرامية تتوسَّلُ الطائفية والإثنية صراحةً وبدون مواربة. وإلاّ ما معنى عشرات بل مئات الجثث المعلومة والمجهولة يومياً ومنذ ثلاث سنوات؟! وهكذا يقاربُ عدد الضحايا العراقيين الآن المليون، وعدد المُهجَّرين بالداخل والخارج الأربعة ملايين، ليُصبح "خطابُ" القتل الطائفي هو الأعلى صوتاً وصورة! أمّا في السودان ولبنان، ورغم شساعة الاختلاف بين الوضعين، فإنّ النتيجةَ واحدة: خطابات متوتّرة لا تأبه للحقيقة أو الواقع، وزيادة الخلافات في الإعلام كلّ يوم، دونما أُفُقٍ لحلٍ أو محاولة جادّة في الداخل لذلك. في السودان كنا نعرفُ المشكلة بين الشمال والجنوب؛ لكنّ أحداً لا يعرفُ حقاً ما أسبابُ هذه الفظائع بدارفور، والتي تفوقُ بمراحل، وفي مدةٍ قصيرةٍ ما حدث خلال عقودٍ في الجنوب. هناك الآن ما يزيد على المليون مُهجَّر من دارفور في تشاد وأوغندا وغيرهما. وما يزال الحديثُ جارياً عن المذابح بين الجنجويد وخصومهم، والتي ما استطاع الجيش السوداني ولا القوة الإفريقية إيقافَها. أمّا في لبنان فإنّ الحرب الإعلامية عنيفةٌ ومدمِّرة، وهي تفوقُ بمراحل ما يجري على الأرض. ولاشكَّ أنّ تلك الحربَ الكلامية عبر شاشات التلفزة هي السببُ الرئيسيُّ لتفاقُم النزاعات، إضافةً للأسباب الأخرى. هناك الفريق الذي يتهم الفريق الآخَر بالتواطؤ مع أميركا وإسرائيل. أما المتهمون فيتهمون بدورهم فريقَ التفوق الأخلاقي والتفوق بالسلاح، أنه يأتمر بأوامر سوريا وإيران. وقد قال لي صحفيٌّ يتابع نشرات الأخبار والبرامج الأُخرى: صرتُ أعرفُ ماذا سيقول كلُّ شخصٍ يظهر على الشاشات، وأستطيع مرتاح البال، أن أكتب تلخيصاً دونما حاجةٍ للاستماع! والذي يستمع نصف ساعة إلى الصرخات في التلفزيونات بشأن انتخابات المتن، يصلُ إلى قناعةٍ مؤدّاها، أنه لا مكان للمصالحة، أما الفريق الذي يُقْبل على التصالح فإنّ الانطباع الذي ينشأ عنه أنه يخشى الهزيمة بل هو مهزومٌ حتماً! وهذا الثوران الإعلامي هو الذي تسبَّب في المزيد من الانقسام، والمشكلة أنّ أحداً لا يدري ما هي الفائدةُ من وراء ذلك، إلاّ إذا كان ما يقوله بعض المراقبين صحيحاً: الهَيَجانُ الإعلاميُّ مدفوع، وإذا جرى التوقُّف يقلُّ الدخل أو الدعم! على أنّ "الخطابات" الهائجة التي ذكرناها تتصاعدُ في بلدانٍ مأزومةٍ ومنقسمة بالفعل؛ لكنْ ما سببُ ما يحدُثُ في إعلام المعارضة بمصر؟ وإعلام المعارضة بالمغرب؟ إذ إنّ الذي يستمع إلى "خطابات" المعارضة أو المعارضات، يظنُّ أنّ النظام أجنبي واستعماري وجاء من الخارج واستولى على البلد بالقوة! وبالفعل لا أحد يدري سبب هذه السلبية السوداوية، مع ملاحظة أنّ جميع المعارضين في البلدين مسرورون ومُقبلون على النزاع بحماس، وهم يرون الولايات المتحدة وراء كل حجرٍ وشجر، رغم أنهم لا يملكون وجهات نظر أُخرى أو بديلة. وليس في سوريا خطابٌ داخليٌّ، فقد انتهى الخطاب البعثي دون أن يحلَّ خطابٌ آخرُ محلَّه. والمسؤولون السوريون يجادلون الخارج العربي والأميركي، ويقولون إنّ الآخرين يتبعون نهج الاستسلام، بينما تبع النظام نهج المقاومة. ومن طرائف الموقف أن يكون نهجُ "المقاومة" الذي تتبناه سوريا متمثلاً بـ"حماس" و"حزب الله"، أمّا في الداخل السوري فلا أثر له على الإطلاق. خطابات الهياج والثوران إذن إنما هي خطاباتُ عجزٍ وإفلاس. وهي لا تسودُ إلاّ في ظروفٍ استثنائية. وما عاد يكفي القول إنّ هناك صراعاً أميركياً/ إيرانياً، وإنّ الاصطفافات تحدث من حول زعامة أحد الطرفين. فقد صارت للنزاع ميكانزماته وآلياته المستقلة عن كل شيء، بما في ذلك المضامين اللغوية المتعارَف عليها، والمصالح السياسية المستقرة. ولا عمل لهذه الميكانزمات والآليات غير مُفاقمة النزاعات. فلا حول ولا قوة إلا بالله.