يقدم "ديفيد جيلينر"، أستاذ علوم الكمبيوتر بجامعة "ييل" الأميركية، في كتابه "الأمركة: الدين الغربي العظيم الرابع"، والذي نعرضه في هذه المساحة، طرحاً جديداً وغريباً في الآن ذاته للأمركة أو نزعة التعصب للقيم والثقافة الأميركية والاعتقاد بأفضليتها على ما سواها. فهو أولاً يرى أن الوقت الراهن هو أسوأ الأوقات بالنسبة للمشاعر القومية الأميركية من ناحية، وأفضلها من ناحية أخرى. فهو أسوأها لأن الاستياء الجماعي السائد في الولايات المتحدة يلقي بظلال كثيفة على تلك المشاعر، خصوصاً مع استمرار حرب العراق التي لا ترضى عنها غالبية الأميركيين، ووجود رئيس تدنت نسب تأييده حتى كادت تقارب نسب تأييد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إبان فضيحة "ووتر جيت" في سبعينيات القرن الماضي، ووجود تلك الكراهية التي أصبحت معظم شعوب العالم تكنها لأميركا. وهو يرى -على ضوء ذلك- أن اعتقاد الشعب الأميركي بأن دولته فوق الجميع، وأنها تقف على قمة العالم، قد غدا اعتقادا يصعب بيعه لباقي شعوب العالم. يعود المؤلف بعد ذلك للقول إن الوقت الراهن هو أفضل الأوقات للقومية الأميركية، لأن الأمم عندما تصل إلى الدرك الأسفل، وإلى أقصى مراحل اليأس، فإنها تبدأ في التنقيب في ماضيها ومخزونها القيمي، بحثاً عما يعينها على النهوض مجدداً. وهذا تماماً ما يفعله الشعب الأميركي حالياً، حيث يعكف على البحث عن تلك المبادئ السامية التي قامت عليها الأمة الأميركية، من أجل تجديد مشاعره القومية بعد أن طالها الوهن في العقود الأخيرة. حتى هنا، لا جديد فيما يطرحه المؤلف... لكننا نراه بعد ذلك يأخذ منحى مختلفاً، فيقول إنه كتب كتابه هذا من أجل القراء الذين يريدون حقاً معرفة ماهية القيم التي يتعين عليهم تمجيدها في منظومة القيم السياسية والثقافية الأميركية، بحيث تصبح تلك القيم بمثابة "دين جديد" بالنسبة لهم، يقوم جنباً إلى جنب الدين السماوي الذي يعتنقونه. والمؤلف يدرك أن فكرته هذه ستثير الاستغراب لدى القارئ وأنه -القارئ- قد يعتقد أن المؤلف لم يحسن التعبير عن فكرته، وأنه ليس من المعقول أن يقصد أن تكون منزلة تلك القيم هي ذاتها منزلة الدين، فيؤكد ويعيد التأكيد أنه لا يستخدم الكلمة هنا على سبيل الاستعارة أو المجاز، وإنما يقصد تماماً ما يقوله؛ إنها دين لأنها كذلك بالفعل! فنزعة الاعتزاز بكل ما هو أميركي يجب أن تتحول إلى دين في رأيه، والفرق بين المؤمنين بالدين الجديد والمؤمنين بالدين السماوي، أن من يؤمن بالأخير يفترض ألا يؤمن بدين آخر(هذا ما يقوله المؤلف، لكنه بالطبع لا ينطبق على جميع الأديان)، أما من يؤمن بالأمركة فيمكن له أن يؤمن بدين آخر، لكن ليس أي دين آخر، وإنما الدين المسيحي تحديداً، وخاصة النسخة الطهرانية منه والتي صاغت ثقافة وسياسة الأمة الأميركية منذ نشأتها وحتى اليوم. والحقيقة أن طرح جيلينر ليس فريداً من نوعه... إذ كثيراً ما يقوم بعض الكتاب المتعصبين دينياً بتقديم طروحات مماثلة من وقت لآخر. لكن الفريد من نوعه هو ذلك التبرير الذي يقدمه في معرض تسويق حجته حيث يطلق على أميركا لقب "الجمهورية الإنجيلية"، ويصف الأمركة بأنها "دين إنجيلي". طرح أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه طرح يمكن للمرء أن يتوقع سماعه من أحد القساوسة الإنجلييين المتعصبين وليس من عالم كمبيوتر يعمل في جامعة ييل الذائعة الصيت يفترض أنه رجل ذو عقلية علمية. باقي الكتاب عبارة عن رحلة في التاريخ الأميركي، وهي رحلة تخلو من أي إثارة، ولا تزيد عن كونها مجرد سرد رتيب لوقائع تاريخية معروفة حتى لتلاميذ المدارس. وكل ما فعله المؤلف هو أنه دخل على موسوعة تاريخية، وانتقى منها ما شاء ثم وضعه في سياق زمني متسلسل شاغلاً به العديد من الصفحات. ويكفي لكي ندرك ذلك أن نعرف أن ما أورده عن الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة على سبيل المثال، قد غطى ما لا يقل عن 60 صفحة من صفحات الكتاب. ومن الواضح أن المؤلف كان يعرف أن سرده هذا سيكون مصدراً لشعور القارئ بالملل، بدليل أنه لا يني كل عدة صفحات عن لفت نظر القارئ أنه ليس مؤرخاً متخصصاً. وكأني بالمؤلف هنا لم يكتف بغرابة طرحه، ولا بربطه القسري بين المشاعر القومية والدين، وإنما راح يفرض على ذلك القارئ صفحات مقحمة ومستمدة رأساً -وربما دون أي قدر من التحرير- من الموسوعات التاريخية. ويشن المؤلف في كتابه هجوماً ضارياً على ما يطلق عليه قوى العلمانية في الولايات المتحدة، وهي في رأيه تلك القوى التي اختطفت السياسة والثقافة الأميركيتين وحرمتهما من تلك القوى الروحية التي كانت تشكل عنصراً مهما من عناصر تميزها. وهو يقول ذلك من دون أن يبين لنا ماهية تلك القوى، وكيف تسنى لها إقصاء القوى الإنجيلية، لاسيما أن الفترة الحالية من التاريخ الأميركي تشهد مداً وصعوداً متناميين للقوى المحافظة والإنجيلية في السياسة والثقافة الأميركيتين، بدليل أن الرئيس الأميركي ذاته يقول إنه يسمع أحياناً هاتفاً من السماء يرشده لما يتعين عليه أن يفعله! سعيد كامل الكتاب: الأمركة: الدين الغربي الرابع العظيم المؤلف: ديفيد جيلينر الناشر: دبلداي تاريخ النشر: 2007