تجاوزت التجاذبات السياسية في الأراضي الفلسطينية كل الحدود! فالتحريض والاتهامات المتبادلة زادت بدرجة كبيرة، وبات كل طرف يحمل الآخر المسؤولية، ويكيل له أبشع التهم ويكشف ما بحوزته من "فضائح". وما بين مصطلحي "الانقلاب العسكري" و"تطهير القطاع"، تزداد صورة الواقع الفلسطيني قتامة، وهو ما يعود بالسلبية على القضية التي تمر بأخطر مراحلها. هذا رغم بعض الأصوات الملتبسة (وآخرها دعوة المسؤولين الروس) التي تدعو كلاً من "فتح" و"حماس" إلى التعالي على الجراح والعودة للحوار باعتباره المخرج الوحيد من الأوضاع المتأزمة. وواضح أن تأثير التجاذبات الحاصلة مدمر للقضية الفلسطينية، وللوحدة السياسية والجغرافية، ولصورة الشعب الفلسطيني كشعب ضحية وخاضع للاحتلال، بعد أن أصبح السلوك الفلسطيني القيادي لا ينم أساساً عن كل ذلك بعد ارتداء بعضهم ثوب الجلاد، في ظل كل ما يقال عما تقوم به حركة "حماس" بحق حركة "فتح" في القطاع، وما يروى عما تقوم به الأجهزة الأمنية في الضفة بحق حركة "حماس". تطلب "حماس" بعد أن حققت ما تريد، الحوار "ولا تستجديه"، مقتنعة أن الجولة القادمة تعني أنها ستفرض شروطها على "فتح". لكن هذه الصيغة مرفوضة فتحاوياً وفي أوساط فلسطينية واسعة، ذلك أنهم يعتقدون بضرورة تقديم "حماس" "تنازلات مؤلمة" حتى لا تدخل القضية والفصائل في دوائر العبثية، الأمر الذي سيضر -وقد بدأ- بسمعة "حماس"، وهو موقف تبدى في طروحات بعض المحللين والسياسيين العرب. ومع ذلك، يبقى السؤال: أين الحل وكيف الخروج من المأزق وبخاصة في ظل حقيقة أن "حماس" موجودة، وأن كل محاولة لاقتلاعها لن تنهيها كظاهرة (كما هو الحال بالنسبة لظاهرة الإسلام السياسي ككل)؟ وفي سياق متمم، ثابت أن التفكير بالإطاحة بالحاكمين مباح ديمقراطياً، باعتبار أن واقع الأنظمة الديمقراطية يقوم على الإطاحة بالخصم السياسي ودحض برامجه الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية. لكن هناك فرقا بين الإطاحة بـ"حماس" بصيغة الانقلاب الجزائري، أو إبعادها نهائياً عن الحكم ديمقراطيا. فـ"حماس" موجودة بدليل نتائج الانتخابات. صحيح أن كثيرين (وفي طليعتهم الرئيس أبو مازن) كانوا لا يحبون التفكير في وصولها إلى السلطة بشكل كامل، بل كانوا يتوقعون/ يتقبلون سيناريو وجودها في المجلس التشريعي كقوة معارضة (حتى ولو كانت كبيرة) كونه يشد من مفاصل السلطة المفككة، ويضخ دماً جديداً يساهم في بلورة أجندة وطنية أكثر وضوحاً وصلابة، وأنه فوق كل هذا وذاك سيدفع "حماس" إلى الواقعية أكثر وأكثر. ومع ذلك فإن قولة الحق تحتم علينا القول إن هناك جملة من المعطيات ساهمت في حصول "حماس" على هذه المقاعد، لعل أبرزها الحيادية الانتخابية للسلطة، رغم كون بعضهم يعزوها أساساً لقناعة "فتح" بضمان الفوز. إذن، الواقع الحمساوي (وكل واقع حاكم) يمكن أن يتغير من دون إراقة نقطة دم واحدة أو تجويع طفل وحرمانه وعائلته من قوت يومه أو حصاره. فشعبية "حماس" ربما تنخفض لبعض ممارسات قادتها ضد عناصر "فتح" هنا وهناك، لكنها أيضاً قد تزيد جراء ممارسات بعض قادة "فتح" ضد عناصرها و/أو لممارستها المقاومة ضد الاحتلال. لذا، يصبح لزاماً على "فتح" أن تحاول -ديمقراطيا فقط– إبعاد "حماس" عن الحكم وليس الإطاحة بها بالقوة الفتحاوية وتحالفاتها، مستثمرة الواقع الضاغط على حركة "حماس" من أجل التخلي عن أو "تعديل" الكثير من أفكارها وشعاراتها (ليس بالضرورة برغبتها الذاتية ولكن بحتمية المرحلة التي دخلتها). إن الطرح باقتلاع "حماس" بضربة واحدة (فتحاوية) أو "متحالفة" مع إسرائيل أو غيرها، تطيح سلطتها، إنما هو ضرب من الخيال. صحيح أن واقع "حماس" في الضفة الغربية يختلف عن واقعها في قطاع غزة، إذ هي غير قادرة على توفير السلاح والإمكانات والتدريب لبناء جهاز عسكري قادر على الحسم، على غرار جهازها العسكري في القطاع، رغم وجود ما يسمى بخلايا نائمة في مدن الضفة، لكنها تملك إمكانات قادرة على تحقيق نوع من الوجود الشعبي القوي في الضفة من خلال مرتكزات وثوابت أيديولوجية وسياسية وقدرات تنظيمية ومالية تتمتع بها الحركة، معتمدة على تنظيم ملتزم له جمهوره لاسيما في جنين والخليل ونابلس والقرى والمخيمات هناك. ذلك أنه ليس صحيحاً أن الضفة الغربية هي فقط رام الله والبيرة! بل إن حركة حماس سجلت حضوراً انتخابيا واضحاً في المدينة التوأم (رام الله/ البيرة). يضاف لذلك كله وجود معلومات تؤكد (لأسباب متنوعة) إحجام "إسرائيل" ودول عربية ذات صلة، عن تجريد حملة عسكرية لإطاحة "حماس". والحال كذلك، لا سبيل سوى التأكيد على أن الحل لا بد أن يأخذ منحاه الوطني والديمقراطي عبر معالجة الواقع الجديد سياسياً والاتفاق على رفض سياسة الإقصاء لأي طرف فلسطيني، على الأقل لأنه أمر غير ممكن واقعياً. إذن: الحوار حتمي لأنه البديل والخيار العملي الوحيد أمام الفلسطينيين، وأيضاً لأننا ندرك أن إسرائيل لن تعطينا شيئاً ذا قيمة، ولأن عدة دول بارزة في واقع الإقليم العربي تدفع باتجاه العودة للحوار بين "فتح" و"حماس". وعلى درب هذا الطريق الوحيد –عملياً- للخروج من المأزق الراهن. يبدأ الحوار بالتوافق لإيجاد صيغة تفاهمية وفق برنامج سياسي، من دون أن ننسى أن للحوار شروطاً حتى يكون ناجحاً؛ على رأسها عودة حقيقية لمؤسسات السلطة في القطاع على قاعدة عدم فرض الواقع بقوة السلاح واحترام الشرعية الرئاسية والتشريعية من جانب مختلف أطراف الأزمة، والتأكيد على وحدة الشعب، وأن ما يجري ناتج عن القطيعة وعدم الحوار ومحاولات فصيل فرض كلمته على الآخر. والحوار المطلوب هو للاتفاق على إقامة "حكومة انتقالية"/ "حكومة إنقاذ" تعمل وتشرف على الانتخابات المبكرة وقانونها وآليات إجرائها وضمانات نزاهتها، والأهم ضمانة احترام نتائجها والتقيد بها. فتبكير الانتخابات أمر معمول به في الديمقراطيات الحديثة (وفي إسرائيل وغيرها غالباً ما جرى تبكير الانتخابات في سياق توافقي بين الحكومة والمعارضة)، رغم أن هذه الممارسة لا تزال حتى تاريخه غائبة عن ساحة العمل السياسي الفلسطيني، على الأقل بسبب حداثة التجربة. إذن، دعونا نمضي إلى انتخابات (رئاسية وتشريعية) حرة نزيهة مبكرة وليفز من يفز وفق اختيار الشعب، ذلك أن "سلاح" إطاحة "فتح" بـ"حماس" (أو العكس) يجب أن يكون "الانتخابات" وليس السلاح! ولكل من يختلف معنا نقول: ائتونا بحل وطني وديمقراطي غير دموي آخر، ونحن سنكون على استعداد لإعادة النظر فيما نطرح، بل للقبول بما تطرحون!