يخوض "جوزيف بايدن"، الزعيم "الديمقراطي" ورئيس لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية، معركة سباق مرشحي "الحزب الديمقراطي" للانتخابات الرئاسية التي تجري العام المقبل. ولا تزال مؤشرات استطلاع الرأي العام، تشير إلى احتمالات نجاح ضئيل للغاية لـ"بايدن" في مسعاه الانتخابي هذا، بالنظر إلى أن معدلات تأييده من قبل ناخبي الحزب وقواعده، لا تزال منخفضة للغاية. لكن على الرغم من ذلك، يواصل بايدن تقدمه وقدرته على إثارة اهتمام الرأي العام، خاصة بين زملائه والعاملين في أوساط صناعة السياسات الخارجية، بسبب رؤيته الخاصة بخيارات السياسة الأميركية التي يمكن اتباعها في العراق. ويعود هذا التقدم الذي يحرزه بايدن في الأوساط والدوائر المشار إليها على وجه الخصوص، إلى كونه في مقدمة دعاة "التقسيم الناعم" للعراق، كاستراتيجية من شأنها وضع حد للفوضى والعنف المستشريين في البلاد. وبموجب هذه الاستراتيجية، فإن من المفترض أن يتم تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء تتمتع بما يشبه الاستقلال الذاتي عن بعضها بعضا، أحدها للمسلمين السنة، والآخر للشيعة، والثالث للأكراد، على أن تخضع جميعها لسلطة مركزية من نوع ما. وما يثير اهتمامات بعضهم في دوائر السلطة واتخاذ القرار في واشنطن بهذه الاستراتيجية، أن العراق يمر عملياً بديناميات الانقسام الإثني هذه، ما يستوجب فصل الأجزاء الكبيرة منه واقعياً على أساس طائفي إثني. والحقيقة أيضاً أن ما يقارب الأربعة ملايين عراقي، قد اضطروا للهرب من بيوتهم وديارهم منذ اندلاع النزاع المسلح في عام 2003، وأن حوالي مليونين من هؤلاء الفارين، قد لجؤوا إلى الدول المجاورة، خاصة الأردن وسوريا، بينما فر عدد مماثل تقريباً، إلى أنحاء أخرى داخل العراق، حيث يشعرون بقدر أكبر نسبياً من الطمأنينة والأمن على حياتهم. وبالمقارنة فقد ظل إقليم كردستان في شمال العراق، يتمتع باستقلاله الذاتي عن العراق، منذ عام 1991، حين فرضت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، حظراً جوياً على كل من شمالي وجنوبي العراق، وتمكنتا فيه من احتواء القوات الحكومية العراقية التابعة لنظام صدام حسين، بحيث ينحصر نطاق عملها في وسط العراق والعاصمة بغداد فحسب. واليوم يرتفع العلم الكردستاني في سماء كردستان، وليس العلم العراقي، بينما يتحدث الأطفال لغتهم الكردية الأصلية في نظامهم التعليمي، ويتعلمون الإنجليزية وليس العربية كلغة ثانية. إلى ذلك يجني الإقليم فوائد مالية كبيرة من الاستثمارات التركية المتدفقة عليه، فضلاً عما يجنيه من موارد هائلة تضخها عليه السياحة. أما المنطقة الجنوبية من العراق، لاسيما مدينة البصرة والأجزاء المتاخمة لها، فقد تحولت افتراضاً إلى ما يشبه الدولة الشيعية خلال العامين الماضيين. وعلى الرغم من أنها ليست بالعنف الذي تتسم به بغداد، فإن البصرة تخضع عملياً لحكم مجموعة من الميليشيات الشيعية التي تخوض حرباً شرسة ودامية فيما بينها لفرض هيمنتها على الموارد النفطية الهائلة المتوفرة في الجنوب العراقي. ووفقاً لدراسة أعدتها "مجموعة الأزمات الدولية" مؤخراً، فإن مدينة البصرة، تعد حالة نموذجية لدراسة تعدد وتنامي أشكال العنف المنتشرة في العراق اليوم. والمؤسف أنه لا علاقة تذكر لنشاط وأهداف هذه الميليشيات، بالعنف الطائفي من حيث هو، أو بالمقاومة الوطنية للاحتلال الأجنبي. وجاء في الدراسة المشار إليها "أن فترات الاستقرار النسبي، لا تعكس وجوداً كبيراً للسلطة الحاكمة بقدر ما تعكس حالة التوازن الهش والنسبي البادي الآن، بين المصالح المتضاربة المتنافسة فيما بينها، وكذلك حالة الإرهاب الجاري بين الميليشيات المتناحرة". وتلك هي خلفية الواقع التي تحمل بعضهم على الاعتقاد بأن استراتيجية "الفصل الناعم" للعراق، ربما كانت السبيل الوحيد لتفادي انزلاقه إلى مستوى أسوأ مما هو عليه الحال الآن، نحو الحرب الأهلية والفوضى الشاملة، خاصة فيما لو فشلت استراتيجية زيادة عدد القوات الأميركية في تحقيق الاستقرار الأمني الذي وعدت به العاصمة بغداد، بينما أخفقت حكومة نوري المالكي في التوصل إلى المصالحة السياسية المأمولة، وإلى ترتيبات قسمة السلطة والثروة بين شتى الفصائل والتيارات العراقية المتصارعة. ومما زاد الحماس في دوائر صنع القرار والسياسات الخارجية الأميركية بصفة خاصة، لاستراتيجية الفصل الناعم هذه، باعتبارها خياراً واقعياً وممكناً لحل الأزمة الراهنة، بكل ما تخبئه من تداعيات أمنية خطيرة على منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بل وما تعنيه من تهديدات جدية للأمن العالمي برمته... ما يبدو من تلكؤ تتهم به حكومة المالكي، في إنجاز ما وعدت به من عقد مصالحة سياسية بين الفصائل المتناحرة، ليس أقله سماحها لأعضاء البرلمان، بالذهاب في عطلة صيفية خلال شهر أغسطس الحالي، ما يعني تأجيل دورة انعقاده في هذا الظرف السياسي الحرج، ويعصف بمصداقية الحكومة نفسها، ويزيد في المقابل من حماس المتشككين في واشنطن، لخطة الانسحاب الفوري من العراق. بيد أنه يتعذر على استراتيجية "الفصل الناعم" هذه أن تترجم إلى واقع فعلي ملموس في التربة العراقية، من دون الحصول على الموافقة الضمنية عليها، من قبل الدول المجاورة للعراق، لاسيما تركيا وإيران. على أنها وفي كل الأحوال، تظل استراتيجية محفوفة بالخطر والمغامرة. إلى ذلك تظل الاستراتيجية مثيرة لخيبة الآمال، لكونها تعد انحرافاً عن الخطة الأصلية التي حركت دعاة الغزو في واشنطن عام 2003، إذ كان المبرر والأمل، هما بناء عراق موحد، علماني وديمقراطي مزدهر. فتلك هي الأهداف التي عكفت على صياغتها إدارة جورج بوش، قبيل خوضها لمغامرتها العسكرية في صيف عام 2003. فانظر كيف ضمرت الآمال وتواضعت عملياً إلى حد القبول بعراق ممزق الأوصال، وأبعد ما يكون عن الوحدة والديمقراطية والعلمانية؟! لكن ووفقاً لمبدأ الأخذ بأخف الضررين، فربما كان الفصل الناعم للعراق، خياراً واقعياً مفضلاً على ترجيح استمرار دوامة العنف الدائرة فيه حالياً، وربما كان خياراً لدرء تدخل عسكري خارجي في شؤونه من قبل جيرانه المتربصين به من جميع الجهات.