في رأيي أن حديث بعض كبار الوزراء البريطانيين الآن عن تحول أفغانستان إلى ميدان للمعركة الرئيسية التي يخوضها الغرب ضد الإرهاب، حديث يحتاج إلى مقاربة أكثر عقلانية. وكما لاحظنا، فقد ارتفع عدد القوات البريطانية المنتشرة في أفغانستان، ليصل إلى 7.800 ألف جندي، معظمها في محافظة هلمند الواقعة في جنوبي أفغانستان، في وقت تم فيه خفض قواتنا المنتشرة في العراق، إلى 5 آلاف جندي فقط. لكن على رغم ذلك، فإن الأمور لا تسير على النحو المطلوب في أفغانستان. ويجدر أن نذكر هنا أن المشير "لورد إينج"، كان شغل منصب رئيس أركان الحرب خلال الأعوام 1994-1997، كما شغل منصب القائد الأعلى للجيش البريطاني قبل تلك المدة. وفوق تلك الخبرة العسكرية الراسخة، فهو زائر منتظم لمنطقة الخليج العربي إلى اليوم. وكان قد تحدث عن سير العمل الميداني في أفغانستان، خلال حوار عام أجراه مجلس اللوردات، في وقت مبكر من شهر يوليو المنصرم. ومما أدلى به من حديث، فقد اعتقد البعض أنه كان يعبر عن آراء رئيس أركان الحرب الحالي، خاصة وأنه عاد لتوه من زيارة لأفغانستان. وجاء في حديثه ما يلي: "إن الوضع الميداني في أفغانستان، هو أسوأ مما يعلمه الكثيرون هنا. وإن علينا أن نواجه هذه القضية كما هي. ذلك أن عواقب أي فشل استراتيجي في أفغانستان، ستكون وخيمة للغاية على بلادنا، وعلى القوى الأعضاء في حلف الناتو إجمالاً". وكان اللورد بادي آشداون، قد أدلى بدلوه في الحوار المذكور، ثم أعقب مشاركته تلك بتصريحات ألقى بها خلال حوار صحفي أجري معه لاحقاً. ويعد هذا الأخير، زعيماً سابقاً لحزب "الديمقراطيين الليبراليين" فضلاً عن البسالة والتوفيق اللذين تحلى بهما، يوم كان مندوباً سامياً للمجتمع الدولي في البوسنة. وفي اللقاء الصحفي الذي أجرته معه صحيفة "ذي أبزيرفر" في عددها الصادر بتاريخ 15 يوليو الماضي قال آشداون: "إن العواقب والتداعيات المحتملة لأي فشل استراتيجي في أفغانستان، هي أسوأ بكثير من تلك التي يمكن أن يتمخض عنها فشلنا في العراق. ذلك أن فشلنا في أفغانستان، إنما سيعقبه فشل مباشر وحتمي في باكستان المجاورة. وبالنتيجة فستتضاعف المصاعب الأمنية التي تواجهها بريطانيا. ومكمن الخطر، استحالة وضع حد لحرب أهلية تشتعل نيرانها في منطقة لوردات الحرب، بل المرجح أن تتصاعد تلك الحرب ويمتد نطاقها لتشتعل في نهاية الأمر، بين طائفتي المسلمين الشيعة والسُّنة، مع أنها ستنتشر لتشمل منطقة الشرق الأوسط بأسرها". ومضى آشداون إلى القول أيضاً: "ولنذكر أن الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، كان كثيراً ما يشير إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، باعتبارهما حربين أهليتين خاصتين بالأوروبيين. وبهذا المعنى فليس مستبعداً نشوب حرب إقليمية جديدة، وهذا هو ما بدأت تلوح نذره منذ الآن. وفيما لو نشبت هذه الحرب، فإنها لاشك ستكون كارثية على حلف "الناتو" بالذات. والحقيقة أن الضرر الذي سيلحق بـ"الناتو" في هذه الحالة، سيكون مكافئاً من حيث حجمه لذلك الضرر الذي لحق بالأمم المتحدة في حرب البوسنة". وأعرب اللورد آشداون عن مخاوفه من أن يكون حلف "الناتو" قد بدأ سلفاً خسارة المعركة من أجل كسب العقول والقلوب في أفغانستان. و"الدليل أن المعركة حول تحقيق هذه الأهداف، إنما هي معركة من أجل كسب الرأي العام لصالح الأطراف المتنازعة هناك. والشاهد أن معدلات التأييد الشعبي للحلف بدأت في التراجع الملحوظ، ما يعني صعوبة رفع تلك المعدلات وتحسينها، ما أن تبدأ بالانزلاق والهبوط. وفيما نعلمه فإنه ليس في مقدور أي قوة محتلة أن تعيش في هامش حياة الدولة المحتلة، مهما قصرت الحياة الهامشية المتخيَّلة تلك". وإنه ليسهل جداً وصف المصاعب الماثلة في أفغانستان الآن. فهناك القوى المناوئة لحكومة كابول، بما فيها قوات "طالبان" المدحورة التي بدأت تستعيد قوتها وتركز هجماتها على قوات حلف "الناتو" والحكومة الأفغانية، وهناك مقاتلو تنظيم "القاعدة" المتحالف معها، إضافة إلى عصابات الجريمة المنظمة ذات الصلة بتجارة المخدرات، والجماعات القبلية المتعاونة معها. وقد رسمت مجلة "ذي إيكونومست" في عددها بتاريخ 10 يونيو الماضي صورة في غاية القتامة عن الوضع الفعلي هناك بقولها: "مما يزيد الوضع الأمني تعقيداً وصعوبة، وجود مافيا تمولها تجارة المخدرات التي تصل عائداتها إلى مليارات الدولارات سنوياً، مع العلم بأن أنشطة هذه المافيا تذللها وتوفر لها التغطية اللازمة، ظاهرة الفساد المستشرية في أفغانستان. بل لابد من أن نضيف، أن تولي بعض لوردات المخدرات السابقين للوظائف الحكومية في بعض الحالات، يطعن كثيراً في نزاهة ومصداقية الحكومة الأفغانية وحلفائها الخارجيين". وفي المقابل، فإنه لم يحدد مكان اختفاء أسامة بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة"، ولا رفيقه الملا عمر، زعيم حركة "طالبان"، خلال السنوات الخمس الماضية، كما لم يقتل أي منهما. بل تمكنت الجماعات الإرهابية من استثمار السنوات نفسها، في إعادة تجميع صفوفها، وبدأت بشن هجماتها المضادة لحكومة كابول وقوات "الناتو" المساندة لها منذ فصل الشتاء الماضي. وفي الوقت ذاته، تحولت المدارس الإسلامية الباكستانية، إلى مفرخة للمقاتلين التابعين لها. يضاف إلى هذا كله، أن لحركة "طالبان" كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، بما فيها بعض التكنولوجيا المتطورة، مثل تلك التي استخدمت مؤخراً ضد قوات التحالف الدولي في العراق. وإني لأفخر مثل كثيرين غيري من المواطنين البريطانيين، بمشاركة القوات البريطانية وقيامها بواجبها في دعم القوات الأفغانية. وكما نعلم فقد تم نشر ما يزيد على 36.750 جندي ينتمون إلى 37 دولة من شتى أنحاء العالم في أفغانستان، إلا أن معطيات الوضع الميداني، تشير إلى تنامي الحاجة الملحَّة لنشر المزيد من آلاف الجنود الدوليين هناك. ولنذكر أنه كان قد سبق للاتحاد السوفييتي أن نشر ما يزيد على المليون جندي من جنوده في أفغانستان، خلال سنوات اجتياحه لها بين عامي 1979 و1989، قبل أن يرغم على الانسحاب منها في نهاية الأمر. وعلى رغم الهزائم التي يتعرض لها مقاتلو "طالبان"، في أي مواجهة عسكرية لهم مع قواتنا البريطانية، إلا أن قراءتي للوضع العسكري من على بعد، تقول لي إن هذه ليست بالحرب التي يسهل علينا الفوز بها، خلال السنوات القريبة المقبلة. على أنه يلزم الاحتراز من التداعيات الدولية، التي ربما تنجم عن فشل الغرب في جهوده المبذولة في كل من العراق وأفغانستان.