لو أن رجلاً أحب امرأة، أو أن امرأة أحبًّت رجلاً، فوجد أيُ منهما الآخر في حالة يرثى لها من الضعف أو التخٌّبط الذي لا ينتهي وابتلاع الهوان والمذلًّة، المَرّة تلو المَرَّة... ولو سار الأمر كذلك سنة بعد سنة من دون أن يظهر بصيص أمل في أن يحاول هذا الآخر الوقوف على قدميه وأن يخجل من هوانه على نفسه... لو أن أحدنا صادف مثل هذا الموقف في حياته، فحتماً سيحاول أحد أمرين: إمّا أن ينسحب ويفلت بجلده قبل أن يصيبه الجنون أو الموت كمداً، وإماُ أن ينخرط في عملية تغيير جذري لواقع الجحيم الذي يعيشه... أما الوقوف بسكون وقبول الآلام واللُّطم على الخدود والتحسٌّر على البخت النحًّس، فهو دلالة على العبث بالحياة وعلى إضاعة العمر فيما لا يجدي. لا يمكن تصوٌّر إنسان سويٍّّّّّّّّّّّّ يقبل أن يعيش قصُّة حب كهذه مع آخر كهذا. إنه حب مرضي يمكن العيش معه لفترة محدودة، لكن ليس طيلة العمر. ومع ذلك فإن مثل هذه الظاهرة العبثية يمارسها ملايين العرب وهم يعيشون جحيم حبّهم لأمة العرب من دون أن يستطيعوا الفكاك ممًّا يبدو أنه عبث، ومن دون أن يستطيعوا حسمه والانتقال إلى حب غيرها. تبدأ القصًّة بأن يلتحق هؤلاء الملايين بالجمعيات السياسية في مدارسهم أو جامعاتهم، هياماً بأمتهم ووطنهم، ثم ينضمٌّون إلى الأحزاب السياسية في مجتمعهم ويقفون مع قضايا أمتهم بالأقوال والأفعال، ويضحّّّّون بأوقات راحتهم ومسؤولياتهم العائلية ويحزنون ويتألمون لكل مصاب يلمّ بأمتهم... حتى إذا مرًّت العقود من السنين تلو العقود ونظر الفرد منهم إلى الوراء وقال لنفسه بأنه كفى ما فعل لوطنه وما قدّم لأمته، وبأنه آن الأوان كي يرتاح المحارب، تفجر وضع مأساوي في جزء من الوطن، أو انتصر عدو في معركة، أو انهار حلم من أحلام شعبه، فيعود من جديد ليقنع نفسه بأن فترة الراحة التي يستحقها جسده المتعب يجب تأجيلها. إذ كيف يستطيع المحبٌّ خذلان من أحب في لحظات الحاجة لجهده وحنانه! إنه وخز الضمير والتزام الخٌّّّّّّّّّّّّّّّّّّلق ونداء الواجب الذي شبّ على تلبيته. هكذا ما إن يحاول ذلك الفرد العربي الملتزم، أن يخرج من جحيمه حتى تنكّسه مآسي أمته في جحيم أشدّ وأحرّ من دون أن يمرّ قط على الجنّة التي وعد بها نفسه في نهاية الطريق، إنها حلقة مفرغة تبدو كأنها أبدية. لا يمكن لهكذا حب، سواء أكان حباً لفرد أو حباً لوطن ولأمة، أن يبقى طازجاً وصافياً في مثل ظروف كالظروف العربية. إنه ضدّ طبائع الأمور. فحب على تلك الشاكلة لن يلبث حتى يختلط بمشاعر أخرى كالغضب أو الكره. وعندما تختلط المشاعر المتضاربة تجاه نفس الهدف (إنسان أو وطن) تبدأ رحلة العذاب. هناك تعبير لشاعر روما (تولس)، يقول: "إني أكره وإني أحب. ستسألني لماذا أفعل ذلك. إنني لا أعرف، لكنني وأنا أشعر بذلك يمزقني العذاب". وهكذا يعيش العربي الملتزم المحب هذا العذاب: حب لأمته المهانة المنتهكة حقوقها، قرناً بعد قرن، تدور حول جروحها تلعقها من دون أن تشفيها. ليست هذه صور شاعرية. إنها صور من صميم الواقع النفسي والعقلي الذي يعيشه الكثير من عرب اليوم. إن ومضات الأمل وارتفاع المعنويات والإحساس بدفء الارتباط بالأمة والوطن، مثلما حدث إبّان انتصارات ثورة يوليو الناصرية، أو الانتفاضات الفلسطينية، أو استعمال سلاح البترول العربي، أو إنجازات المقاومة في جنوب لبنان... لن تكفي على الإطلاق لمنع وصول الفرد العربي إلى الحالة التي وصفها شاعر روما. الحركات السياسية العربية النضالية يجب أن تتذكر ذلك، فالانتصارات التراكمية هي ما يمكن أن يمنع اختلاط المشاعر التي ستأتي برحلة العذاب.