تذكرُ نكتة كردية أن الرئيس جلال الطالباني سُئل عمّا إذا كان الثعلب يبيض أو يلد؟ فأطرق هنيهة، ثم قال: "الثعلب حيّال... كل شي يسَّوي"! ويُعتبر الثعلب المحتال رمزاً لبريطانيا في نظر السياسيين العراقيين المخضرمين الذين يرقبون خطوات لندن في التخلص من ورطة احتلال بلدهم. معلومات مثيرة بهذا الصدد يتضمنها "تقرير لجنة العراق" الذي أعدّه "مركز السياسة الخارجية" المدعوم من قبل "وزارة الخارجية البريطانية". وقد اتبّع التقرير، كما يبدو، نصيحة شارل الأول ملك بريطانيا في القرن السابع عشر: "لا تُفسرْ، ولا تعتذرْ". أتاح ذلك استبعاد موضوعين اعتبرهما "تقرير لجنة العراق" خارج نطاق عمله بوضوح (!)، وهما "استحقاقات وشرعية قرار المملكة المتحدة التدخل العسكري في العراق"، و"الاتهامات بجرائم الحرب ضد القوات البريطانية المسلحة، أو سوء تصرف منظمات معينة". وأسهب التقرير في تقديم توصيات خاصة بالإجراءات الواجب اتخاذها "على الصعيد الدولي"، وعلى "صعيد القوات العسكرية البريطانية"، و"الاقتصاد وإعادة الإعمار"، و"المعونات الإنسانية". وتحيل التوصيات قضية العراق إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وبلدان الجوار، وتدعو الحكومة البريطانية إلى بذل جهود سياسية دولية عاجلة لوضع اتفاقية عالمية لحماية سيادة العراق على أراضيه، وتقديم الدعم لبناء كيان فيدرالي داخلي للدولة العراقية، يستند الى الدستور الحالي، وأن يجري في الوقت نفسه تعيين مبعوث جديد للأمم المتحدة للتمهيد للمصالحة السياسية الداخلية. والتقرير أول ما يشكك بإمكانية تحقيق هذه التوصيات، ويذكر أسباباً عدة قد تحكم عليها بالفشل؛ يتعلق أولها بتجنب "الأمم المتحدة" الغوص في الشأن العراقي، منذ اغتيال مبعوثها في بغداد "سيرجيو فييرا دي ميلو" عام 2003. وتعود الأسباب الأخرى إلى عدم ثقة العراقيين بحيادية المنظمة الدولية، وتشكيك جهات عدة بإمكانية أن تلعب إيران دوراً إيجابياً بهذا الصدد. ويرسم التقرير صورة قاتمة لوضع الحكومة العراقية التي "لم تصبح بعد سلطة سياسية معترفاً بها من قبل السكان"، وتفتقر إلى مقومات "السلطة القادرة على حماية مواطنيها من هجمات المسلحين والمقاتلين الأجانب". و"تواجه الدولة، بسبب افتقارها إلى كل من القوة والشرعية، تحديات سافرة لسلطتها، فيما تتدهور أشكال الهوية الوطنية، ويترافق ذلك مع صعود الهويات الطائفية والمناطقية". مع ذلك يُشيدُ التقرير بما "أنجزته دول التحالف في القضاء على النظام الدكتاتوري الوحشي وإجراء الانتخابات"، ثم يستدرك: "ومن الواضح الآن أن الرؤية المفرطة الطموح لبلدان التحالف، لم يمكن بعد تحقيقها في العراق". وتدل أرقام "مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة" التي يوردها التقرير، على أن "الطموح المفرط" لم يحقق لحد الآن سوى قتل مئة شخص يومياً في العراق، وإصابة اثنين من كل خمسة بجروح، وتشريد واحد من كل ستة عراقيين عن منازلهم، وإغلاق مئات المدارس أبوابها في بلد كان في مقدمة بلدان العالم الثالث في التعليم، وخفض معدل حياة السكان، والتي كانت قريبة من نظيرتها في أوروبا، إلى أدنى المستويات في بلدان جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. ويذكر التقرير الذي استند إلى بحوث وشهادات أكثر من مئة شخص، بينهم عراقيون من الداخل والخارج، ودبلوماسيون وسياسيون بريطانيون ومنظمات دولية، أن نصف سكان العراق يعانون من البطالة، كما أن 54% من سكان البلد الذي يحتل المرتبة العالمية الثالثة باحتياطياته النفطية، يعيشون حالياً على أقل من دولار واحد يومياً. وقد قفز حجم التضخم إلى 77% خلال العام الأخير. ورغم إنفاق مليارات الدولارات، لم يستعِد العراق مستويات إنتاجه للنفط والكهرباء قبل الحرب. وفشلت مشاريع إعادة البناء الكبرى، ليس فقط بسبب الأعمال المسلحة، بل بسبب الفساد، وسوء الإنشاءات، وتدّني أعمال الصيانة، حسب شهادة يوردها التقرير عن "المفتش العام الأميركي الخاص بإعادة إعمار العراق"، جاء فيها أن "كثيراً من المشاريع تنهار بعد ستة شهور من إكمال بنائها". لماذا لا تدفع هذه الكوارث، والتي تتحمل واشنطن ولندن مسؤوليتها، إلى التوصية بالاعتذار للعراقيين؟ ولماذا لم يعتذر رئيس الوزراء السابق "توني بلير" الذي اتخذ القرار بالحرب على أساس معلومات كاذبة عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؟ يطرح هذا السؤال أحياناً بريطانيون مناهضون للاحتلال يجهلون التبعات القانونية التي تترتب على الاعتذار والاعتراف بالخطأ، وفي مقدمتها تعويض الضحايا. وهذا آخر ما فكرت فيه بريطانيا التي توقعت أن تحقق مواردَ من حرب العراق، أكبر من مواردها من حرب الخليج عام 1991، والتي بلغت، حسب التقديرات شبه الرسمية آنذاك، ما يعادل المليار دولار. وإذا كانت الحرب على العراق من أجل النفط، حسب الشعار الذي رفعه ملايين المناهضين للحرب، فإن حصة لندن من النفط تعادل رطل اللحم في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية". تدور أحداث المسرحية المشهورة حول المرابي اليهودي "شايلوك" الذي يصرُّ على تنفيذ العقد باقتطاع رطل لحم من جسم المَدين إذا تأخر عن الدفع. وعندما يسأله القاضي لماذا لا يقبل بالتعويض المالي، يجيب المرابي: "هذه هي نكتتي"! وليس هناك نكتة أشدّ سقماً من أرباح شركات الأمن البريطانية العاملة في العراق. تختلف تقديرات عدد قوات هذه الشركات ما بين 20 ألفا و40 ألف رجل، وهم في حقيقتهم جنود مرتزقة يشكلون ثاني قوة عسكرية بعد القوات الأميركية. تليهم في المرتبة الثالثة القوات البريطانية التي يزيد عددها في العراق حالياً عن خمسة آلاف مجند. تنظم عمل شركات الأمن الخاصة مذكرة صادرة من حاكم الاحتلال السابق "بول بريمر"، لا تزال سارية المفعول. وتكشف نصوصُ المذكرة التي يوردها "تقرير لجنة العراق" عن شناعة جرائم الحرب المرتكبة ضد الشعب العراقي. فالمذكرة تجيز للمرتزقة استخدام القوة على أن لا تطلق عيارات البنادق ومدافع الهاون "إلاّ نحو الهدف"! وتبيح لهم "استخدام القوة الفتاكة" في الدفاع عن النفس وعن الأشخاص الذين استؤجروا لحمايتهم"، وتمنحهم الحق في "توقيف، وحجز، وتفتيش الأشخاص، ونزع سلاحهم" إذا نص عقد العمل على ذلك، وتؤكد للعسكري المرتزق "لا شيء في هذه القواعد يحدّ من حقك الفطري باتخاذ الإجراءات الضرورية للدفاع عن نفسك"! ولا يمكن مقاضاة هذه الشركات حتى داخل بلد المنشأ، بريطانيا، لعدم وجود تشريعات خاصة بذلك. وتلجأ الحكومة البريطانية نفسها إلى خدمات هذه القوات المرتزقة لحماية منشآتها ومستخدميها في العراق. ويتساءل واضعو التقرير، والذين يقولون إن بريطانيا تقف بسبب حرب العراق على مفترق طرق، "كيف يمكنها التخلي عن مسؤولياتها في العراق، بما يتناسب مع المصالح البريطانية، ويتيح للعراقيين السيطرة بشكل أفضل على مصيرهم الخاص؟"... وشخصياً لا أجد نصيحة لمن أعرف منهم غير ما كتبته في مقالتي "جريمة بريطانيا العظمى" المنشورة هنا عند دخول القوات البريطانية البصرة في الخامس من أبريل 2003: "ستخرج القوات الغازية مكللة بالعار من العراق، الذي لم تقهره عندما كانت بريطانيا الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس".