مازالت أفريقيا هي القارة المنسية. لا تذكرها القوى العالمية الكبرى إلا عند المصالح أو في الملمات. وهي، في نظر الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية، المنطقة التي يجتمع فيها أكبر عدد وأخطر نوع من المشكلات في عالم اليوم. أما حكام القارة، والذين يعتبر الكثير منهم أحد أهم أسباب بؤس شعوبها، فبعضهم عنها لاهون وبعضهم بها يهزلون. وكانت القمة الأفريقية الأخيرة التي استضافتها العاصمة الغانية أكرا، في الشهر الماضي، نموذجاً لهذا الهزل وذلك اللهو. فقد انشغل المشاركون فيها بمناقشة اقتراح وهمي لإنشاء "ولايات متحدة أفريقية". فبدت القمة وكأنها تحلق في فضاء أسطوري، بينما وصل بؤس الواقع على الأرض إلى مستوى أسطوري. ورغم أن مشكلات القارة السمراء أكثر من أن تُعد، تظل الأوضاع المأساوية في مناطق الصراعات المسلحة عاراً على البشرية في بداية القرن الحادي والعشرين. ومن أكثر هذه الأوضاع إيذاءً للضمير الإنساني الانتهاكات التي يتعرض لها النساء والأطفال في مناطق الصراعات. فهذه الانتهاكات في ازدياد كماً ونوعاً، رغم الجهود الكثيرة التي تبذلها الأمم المتحدة من خلال عمليات حفظ السلام في القارة. ولذلك وضع معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية المصرية هذه القضية في مقدمة جدول أعماله عبر عدد من المنتديات التي ينظمها بالتعاون مع بعض مراكز الأبحاث. وقد استضاف المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية بالقاهرة المنتدى الأخير في 22 يوليو الماضي. وتزامن انعقاده مع كشف مأساة جديدة على صعيد انتهاك حقوق النساء في مناطق الصراعات الأفريقية، إذ أعلنت الأمم المتحدة بشجاعة أنها تحقق في اتهامات ضد جنود يعملون ضمن قوات حفظ السلام المتمركزة في كوت ديفوار (ساحل العاج) في غرب القارة. وهؤلاء الجنود متهمون باغتصاب فتيات تقل أعمار بعضهن عن 18 سنة، أي أن المأساة مركبة إذ تجمع الاغتصاب والاعتداء على أزيد من 100 قاصرة، بعضهن حملن من جراء ذلك الاعتداء. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها انتهاك خطير على هذا النحو من جانب جنود من قوات حفظ السلام التي تذهب إلى مناطق الصراعات لأسباب من أهمها حماية السكان الضعفاء من الانتهاكات. فقد تكررت الانتهاكات التي يمارسها أولئك الذين يفترض أن يحموا من ينتهكون حقوقهم أو حقوقهن. لذلك نظمت الأمم المتحدة مؤتمراً في يونيو الماضي لمدة ثلاثة أيام في جمهورية الدومينيكان ضمن مساعيها إلى تجنب حدوث مثل هذه الانتهاكات خلال العمليات التي تقوم بها لحفظ السلام. ولا تقتصر هذه الانتهاكات على أفريقيا، لكن نصيب القارة السمراء منها أكثر من غيرها بحكم وجود أكبر عدد من عمليات حفظ السلام فيها. فهناك ست عمليات الآن في القارة من بين 16 عملية في مختلف أنحاء العالم. وتجري العمليات الراهنة في السودان وكوت ديفوار (ساحل العاج) وليبيريا والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا واريتريا والصحراء الغربية. ويعني ذلك أن أفريقيا تستأثر بنحو 40% من عمليات حفظ السلام الحالية في العالم، بانخفاض قليل عن مراحل سابقة. فإذا أحصينا العمليات التي شهدتها القارة منذ البدء بتنفيذ العمليات الأممية لحفظ السلام في مناطق الصراعات عام 1948، وحتى الآن، لوجدنا أن نصف هذه العمليات من نصيب أفريقيا لأنها الأكثر معاناة من الحروب الإقليمية والداخلية والتي نجم أكثرها عن عشوائية رسم الحدود في عصر الاستعمار من دون مراعاة للاعتبارات السكانية –الاجتماعية– القبائلية. فقد نفذت الأمم المتحدة 23 عملية حفظ سلام في أفريقيا من بين 46 عملية منذ عام 1948. والملاحظ أن بعض العمليات السابقة في أفريقيا كانت في دول أرسلت إليها الأمم المتحدة قوات حفظ سلام مرة أخرى، مثل الكونغو التي كانت العملية الأولى فيها بين عامي 1960 و1964، بينما بدأت العملية الحالية عام 1999. وهناك أيضاً ليبيريا التي كانت العملية السابقة فيها بين عامي 1993 و1997، بينما تعود العملية الحالية إلى عام 2003. وهذه ظاهرة تنفرد بها القارة السمراء تقريباً، لأن حالة جنوب لبنان مختلفة تماماً، مما يدل على أن مشكلاتها المتجذرة في بنياتها الاجتماعية التقليدية، والتي فاقمها الاستعمار الأوروبي، هي الأعمق في عالمنا. بل نجد في أفريقيا حالة فريدة، وهي أن تحدث أربع عمليات حفظ سلام على التوالي في الدولة نفسها، كما حدث في أنغولا بسبب تعقد مشكلاتها. وإذا كانت حاجة أفريقيا إلى عمليات حفظ السلام شديدة على هذا النحو، فثمة ضرورة قصوى لترشيد الأداء في هذه العمليات لتعظيم فرص تحقيق أهدافها وتقليص سلبياتها الآخذة في الازدياد، وخصوصاً الانتهاكات التي تقترفها قوات حفظ السلام. ومن أكثر الأمور إيذاءً للضمير الإنساني أن يقف المجتمع الدولي عاجزاً عن حماية الفئات الأكثر ضعفاً في مناطق الصراعات، وفي مقدمتها النساء والأطفال، حين يشارك الموكل إليهم حماية هذه الفئات في إلحاق مزيد من الضرر بها. ولا فائدة ترجى من الحل السهل الذي يقدمه كثير من المعنيين بهذه المعضلة، وهو زيادة التدريب الذي يتلقاه العاملون في بعثات وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة قبل إرسالهم إلى مناطق عملهم، وخصوصاً التدريب الحقوقي. فإذا أردنا تصحيحاً جدياً لأداء بعثات وقوات حفظ السلام، فلابد من التصدي بشجاعة لمشكلة التنظيم القانوني الذي يحول دون محاسبة الجنود والموظفين الذين يتهمون بممارسة انتهاكات، حتى إذا كان خطؤهم جلياً لا شك فيه. فهم يخضعون لقوانين بلادهم، وبالتالي لا يحق لغير السلطات القانونية في تلك البلاد أن تحاسبهم وتعاقب من تثبت إدانته منهم. ويعني ذلك أن محاسبة من يخطئ منهم مستحيلة حتى إذا اهتمت السلطات القانونية في بلده بذلك، لأن أدلة الإثبات لا يمكن توفيرها. فالدليل الأهم في مثل هذه القضايا هو شهادة الشهود الذين يصعب إحضارهم من بلد الجريمة إلى بلد المحاكمة. وكان الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان قد اقترح، في تقرير قدمه في مارس 2005، إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة جنود وموظفي حفظ السلام المتهمين بممارسة انتهاكات، على أن تكون هذه المحاكم في البلد الذي وقع فيه الانتهاك. ومعروفة الصعوبات التي تحول دون الأخذ بمثل هذا الاقتراح حتى الآن في ظل عدم قبول معظم الدول محاكمة أبنائها في الخارج. ومع ذلك يظل من الضروري بذل جهود لتعديل التنظيم القانوني الذي يحكم جنود وموظفي حفظ السلام. ويتعين، في الوقت نفسه، أن تتحرك الأمم المتحدة باهتمام أكبر لحث بعض الدول التي تشارك بوحدات تابعة لها في قوات حفظ السلام على زيادة مشاركة المرأة فيها، وخصوصاً الدول التي تسمح تقاليدها وقوانينها بذلك. فمايزال دور المرأة في عمليات حفظ السلام هامشياً تماماً لا يتجاوز 1% من العاملين فيها، رغم أن النساء يمثلن الآن نحو 28% من إجمالي الموظفين المدنيين في الأمم المتحدة. كما أن منصباً واحداً من مناصب ممثلي الأمين العام للمنظمة الدولية في بعثات حفظ ومراقبة السلام تشغله المرأة في بعثة الأمم المتحدة في جورجيا. ومن شأن زيادة مشاركة المرأة أن تحد من الانتهاكات التي يتورط فيها جنود بعثات حفظ السلام، وخصوصاً أعمال التحرش الجنسي والاغتصاب التي تمثل القسم الأعظم من هذه الانتهاكات. فمسكينة هي المرأة الأفريقية المنتهكة حقوقها على كل صعيد، ومن الجميع بمن فيهم أولئك الذين يفترض أن يعملوا لحمايتها. لكن معاناة المرأة ليست معزولة عن مأساة قارة لا يكاد الأمل يلوح في إمكان تحسين ظروف الحياة البائسة في معظم أرجائها، والأخذ بيد الضعفاء الذين يمثلون معظم سكانها، حتى يتبدد هذا الأمل أو يبدو كما لو أنه مجرد سراب!