في تركيا العلمانية حقق "حزب العدالة والتنمية" ذو الصبغة الإسلامية فوزاً ملفتاً للانتباه، فماذا يعني لنا ذلك؟ النموذج التركي لا يمكن إغفاله في ظل التحدي الذي يواجهه الإسلام، فهو نموذج تحديثي استطاع أن يقدم الإسلام بصورة واقعية وعملية بخلاف الفشل الذريع الذي منيت به الأحزاب الإسلامية في مصر والجزيرة العربية والخليج، والتي تصارعت في شد الإسلام إلى خانة التشدد وإظهاره كدين معادٍ للحداثة. هل يمكن إغفال دور الإسلام في تحديث الأمم الإسلامية؟ بكل تأكيد سنعتبره تغافلاً وتجاهلاً للواقع؛ فالإسلام كهوية ثقافية لا يمكن محاربته، أما مواجهته فنعتبرها مواجهة حضارية وستزداد شراسة عندما يتمسك كل طرف بمفاهيمه. المعركة الحالية تستقطب مزيداً من المسلمين في خانة التشدد، ليس لأنهم محبون للتطرف بقدر ما هم يدافعون عن هويتهم، وهي معركة تحركها الدوافع والنوازع النفسية ويجب أن تُفهم أيضاً في جوانبها السيكولوجية. الغرب فشل في المواجهة لأنه اختار التعميم وأغفل مفعول الهوية، ولذا لا نرى أي انفراج قادم ولا يمكن الوصول إلى صيغة توافقية إلا من خلال تشجيع نماذج إسلامية حديثة، كالمثال التركي الذي نجح في المواءمة بين الإسلام والحداثة واستطاع أن يفرض نفسه في عالم تتصارع فيه الهويات وتجد نفسها في موقع الدفاع عن نفسها في ظل هيجان موجات العولمة الثقافية. الأزمة الحالية هي صنيعة عالمية، فالأفغان المجاهدون هم نتاج لأيديولوجية تطورت في الحرب على الشيوعية ونمت بين الشباب وتغذت من موائد النفط، لذا يجب محاسبة النفس على ما وصلنا إليه، وهي محاسبة تقتضي منا إدراك المستقبل وتعقيداته والعمل على تقديم رؤية جديدة في فهمنا للدين. التحدي الذي يواجهه الإسلام ليس فقط من الغرب بمدارسه المختلفة، وإنما هو تحدٍ داخلي من الإسلام نفسه. بمعنى أنه على التنظيمات الإسلامية أن تتحرك إلى ما وراء الشعارات صوب البرامج العملية، وأن تكف عن لوم الغرب باعتباره المسؤول عن أزمتها والتعلم من أخطاء الماضي، وأن تفهم هذه التنظيمات أن الديمقراطية ليست وسيلة للوصول للسلطة بقدر ما هي مشروع لتطوير الدولة نحو الحداثة. على التنظيمات الإسلامية الكف عن تغذية المعاداة لكل ما هو غير إسلامي والبدء في استراتيجية تحالفات عقلانية مع تنظيمات أخرى وفق رؤية مستقبلية حديثة. لقد أثبتت المعارضة الإسلامية قدرتها على شحن الشارع وتعبئته ضد كثير من الحكومات، كما حدث في إيران وتركيا والجزائر وباكستان، لكن عليها أن تعقل الشارع وأن تبعده عن العاطفية والهيجان لكي لا تؤلب الغرب ضد مصالحها المستقبلية. فعليها أن تردم الفجوة بين المعتقدات التقليدية وبين الحقائق السياسية المعاصرة عبر تقديم نموذج توافقي يستمد قوته من التعايش مع الثقافات والمعتقدات العالمية. على الحركات الإسلامية وقف مجاملتها لكل من يرفع شعار الإسلام، بحيث لا يختلط الحابل بالنابل وأن تحرص على وقف سيل الفتاوى المسيئة للإسلام وأن تقنن الفتوى وفق متغيرات عصرية وأن تنشط العقل في معالجة هموم العامة من الناس وأن تسهل ولا تعسر لكي تحظى بقبول شعبي واسع. وربما الأهم أن تدرك الحركات الإسلامية ذات التوجه العقلاني بأن الاستبداد هو آفة العصر، سواء أكان إسلامياً أو علمانياً وأنه لا مناص من قبول التعددية كوسيلة للتعايش في عالم متنوع في عرقياته ومعتقداته، وأن تكف تلك التنظيمات عن مجاملة الأنظمة الموظفة للإسلام لخدمة أهدافها السياسية. النموذج التركي سيحظى بمساندة دولية وسينجح في تقديم رؤى جديدة تشكل تحدياً لكثير من الحكومات الإسلامية الحالية وسيشكل قناعة بأنه لا مناص من الإسلام كهوية ثقافية لا يمكن تجاهلها أو تهميشها، لكن على التنظيمات الإسلامية أن تعي الدرس وأن لا تكرر أخطاءها السابقة!