قبل عدة أعوام من الآن، عاب عليّ أحد النقاد الألمان أني أستخدم الكثير من العبارات المتصلة بالطقس وأحوال المناخ الطبيعي في كتاباتي، فلم يكن من أحد الأصدقاء إلا أن هب للدفاع عني، حيث رد على ذلك الناقد بقوله: "إننا في سويسرا نملك طقساً متقلباً، لذا ليس من المستغرب أن يتأثر الكتاب بذلك الواقع الطبيعي". والواقع أن ما أورده ذلك الصديق الذي دافع عني صحيح تماماً، إذ يمكن تعقب أحوال الطقس وتقلباته، ليس في السماء فقط، بل حتى في النشيد الوطني السويسري ذاته، وهو مليء بالظواهر المناخية المختلفة، من ضباب كثيف وسحب داكنة، إلى جانب أشعة الشمس الدافئة. كما أن تضاريس سويسرا المتنوعة، تتأثر هي أيضاً بصنوف شتى من الطقس والمناخ الذي يتراوح بين مناخ البحر الأبيض المتوسط ومناخ القطب المتجمد. ومع أن نشرات حالة الطقس تقسم البلاد، تجاوزاً، إلى شمال جبال الألب وجنوبها، إلا أنه على المستوى المحلي تتعدد التباينات في حالة الطقس أكثر من ذلك بكثير، حيث يشهد أحد الوديان هطولاً كثيفاً للأمطار، بينما تتمتع المناطق المجاورة بدفء أشعة الشمس في الوقت نفسه. وفي ظل هذا التنوع المناخي الكبير، والذي ربما يميز سويسرا عن بقع أخرى كثيرة في أنحاء العالم، يصعب القول إن صيفاً حاراً إلى حد ما، يمثل دليلاً قاطعاً على ظاهرة الاحترار الأرضي، أو أن انخفاض درجات الحرارة في فصل الشتاء إنذار بدخولنا لعصر جليدي آخر. لكن مع ذلك لا ننسى الارتفاع الملموس في عدد الكوارث المرتبطة بالتغيرات المناخية التي شهدتها البلاد، فضلاً عن الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة منذ سبعينيات القرن المنصرم بما يزيد عن ضعف المعدل السائد في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية. ويظهر هذا التغير المناخي بشكل أوضح من خلال تراجع حجم الكتل الجليدية بعدما فقدنا 50% تقريبا من طبقتها السطحية خلال فترة قرن ونصف القرن الأخيرة، علماً بأننا فقدنا أكثر من نصفها خلال الثلاثين عاماً الأخيرة. ومن بين ألفي كتلة جليدية كانت موجودة في سويسرا، اختفت مائة كتلة منها، ويتوقع الخبراء تلاشي معظمها بحلول عام 2050، بحيث لم يعد ممكناً، حسب العديد من الخبراء، وقف التغييرات المناخية التي تشهدها سويسرا. ورغم الجهود التي تبذلها السلطات لمنع ذوبان الكتل الجليدية مثل تغطيتها برداء بلاستيكي خلال فصل الصيف، إلا أن تلك الإجراءات تبقى غير كافية على المدى البعيد. وتظل الإجراءات الأكثر نفعاً وراديكالية في الوقت نفسه مكلفة من الناحية السياسية، بحيث تستدعي تقليص استهلاكنا من الغاز الطبيعي والوقود، وهو الأمر الذي يصعب على الكثيرين الالتزام به. وكانت النتيجة أن استسلم العديد من السويسريين للواقع الجديد وابتهجوا لرؤية مياه البحيرات وهي تصبح أكثر دفئاً، فضلاً عن تعاملهم بإيجابية مع اختفاء الكتل الجليدية التي وإن كان ذوبانها أمراً محزناً، إلا أنه ليس مؤذياً بالضرورة. لكنهم ينسون في ذلك أن الجليد هو أيضاً خزان ضخم من الماء الصالح للشرب، كما يغفلون أن الارتفاع في درجة حرارة الأرض ينتج عنه انجراف للتربة في الوديان والمناطق الريفية. ورغم خطورة الحوادث التي تودي بحياة السكان من حين لآخر، إلا أنها نادراً ما تنقلها وسائل الإعلام، أو توليها الأهمية التي تستحق. فمعظم السويسريين يعيشون بعيداً عن حواف الجبال، أو الجداول المائية التي تتحول إلى أنهار جارفة تفيض بمياهها لتغمر البيوت. وعندما تضرب كارثة ما الوطن فإن جواً من التضامن يسود بين المواطنين لإنقاذ الأشخاص العالقين وينسى الناس في حمأة ذلك طرح الأسئلة المهمة عن حقيقة ما جرى وأسبابه الكامنة. وبدلاً من أن تجري وسائل الإعلام حوارات مع المختصين في الظواهر المناخية، نراها تركز انتباهها على رجال الإطفاء باعتبارهم أبطال الميدان. ويبقى التنوع الطبيعي في سويسرا على اختلافه وتباينه من منطقة إلى أخرى، شاهداً على العصور الجليدية الأخيرة التي غيرت كثيراً من سطح الأرض ورسمت الشكل الحالي للبلد. فقد أدى العصر الجليدي الأخير الذي انتهى قبل 11 ألف سنة إلى انقراض جماعي للثدييات الكبيرة، وهو ما صب لصالح الجنس البشري الذي استغل ذلك لتطوير الزراعة وتربية الحيوانات. لكن اليوم مع التطورات التي يشهدها المناخ العالمي فإن الله وحده يعلم من سيستفيد منها، ومن سيخرج خاسراً. ولا زلت أذكر قبل ثلاثين عاماً، وأنا في عامي الثاني عشر، كيف تدليت بحبل مع بعض الأصدقاء داخل شق كبير بأحد الجبال. ولأكثر من نصف ساعة ظللت متدلياً في الحفرة الكبيرة التي تشق كتلة الجليد الهائلة، وعندما رفعت رأسي إلى الأعلى كانت كتلة الجليد تشع بضوء أزرق وفي الأسفل كانت فرجة الشقة تضيق بالتدريج ليطويها الظلام. واللافت أني لم أكن خائفاً، بل شعرت بالأمان والسكينة. ولعل ذلك الشعور هو ما تزرعه في أنفسنا رؤية الجبال الشاهقة التي تغرس في داخلنا إحساساً مختلطاً من التواضع والهيبة. بيتر شتام كاتب وروائي سويسري ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"