جوديث وارنر أظهرت نتائج استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة "بيو" لاستطلاعات الرأي العالمي، خلال الشهر الجاري، أن نسبة 60 في المئة من الأمهات اللائي شملهن الاستطلاع، يفضلن العمل بالدوام الجزئي غير المتفرغ. غير أن النقاش الذي نريده حقاً هذين اليومين، لا ينبغي له أن ينحصر في إطار ما تريده الأمهات. فهذا أمر معروف منذ مطالع عقد التسعينيات، حين أكدت الدراسات واستطلاعات الرأي التي أجريت وقتئذ، رغبة نسبة تصل إلى 80 في المئة من الأمهات العاملات، في العمل بنظام الدوام الجزئي أو المنزل. والسؤال الذي يجب أن يدور حوله النقاش اليوم هو: لماذا لا تحصل الأمهات على مطلبهن هذا؟ ذلك أن الإحصاءات تشير إلى أن 24 في المئة فحسب من الأمهات العاملات، يعملن بنظام الدوام الجزئي. والسبب الذي يفسر التزام الأغلبية بنظام الدوام الكامل، ليس معقداً ولا هو من علم الفيزياء النووية في شيء. فالحقيقة الواضحة هي أن نظام الدوام الجزئي ليس مجزياً من حيث الراتب أو الأجر لغالبية النساء. وتشير الأرقام إلى انخفاض أجور الأمهات العاملات بنظام الدوام الجزئي، بنسبة 18 في المئة عن أقرانهن العاملات بنظام الدوام الكامل، على الرغم من تساوي العمل والمستوى التعليمي للنساء العاملات. تلك هي الحقيقة التي توصلت إليها الباحثة "جانيت جورنيك"، أستاذة علوم الاجتماع والسياسة بجامعة مدينة نيويورك، وكذلك زميلتها "إلينا بارداسي"، أستاذة اقتصاديات العمل بالجامعة نفسها. والمؤكد أنه قلما أثمر العمل الجزئي عن فوائد مهنية تذكر. وعادة ما تنحصر وظائف العمل الجزئي هذه، في مجالات ومهن بعينها مثل تجارة التجزئة والصناعات الخدمية وغيرهما. وبالمقارنة، فإنه نادراً جداً ما تنخفض ساعات الدوام الكامل الأسبوعي، من 50 ساعة إلى 40 ساعة، من ون أن ينجم عنه انخفاض مماثل في الرواتب والأجور التي يتقاضاها العاملون. على أن واقع العمل وبيئته، لا ينبغي لهما أن يكونا على هذا النحو السيئ مطلقاً. ذلك أن أوروبا قطعت شوطاً بعيداً في جعل العمل الجزئي مجزياً من الناحية المالية، ويمكن الاعتماد عليه من قبل الأفراد الذين يرغبونه. والحقيقة أيضاً أن التشريعات الحديثة تنص على تحريم عدم إنصاف العاملين جزئياً في العديد من البلدان الأوروبية اليوم. فإذا ما اتخذنا من السويد مثالاً، نجد أن تشريعات العمل تنص على أحقية الأبوين في العمل بدوام 6 ساعات يومياً، حتى يبلغ الأبناء سن الثامنة. وتمنح القوانين الفرنسية والنمساوية والبلجيكية حقاً مماثلاً للآبوين في جميع هذه الدول. أما في ألمانيا وهولندا، فيحق لكل موظف خفض ساعات دوامه متى ما شاء، من دون أن يعاقب مالياً على ذلك، وأن يحسب له إنتاجه خلال الساعات التي يقضيها في الدوام. بل إن لبريطانيا نفسها تشريعات عمل صديقة للأسرة. وعلى رغم الاختلاف النسبي بينها وبقية الدول الأوروبية الأخرى في هذا المجال، إلا أن تشريعات الأسرة فيها، تعطي الآباء وكل أفراد الأسرة الذين يهتمون برعاية أحد أفرادها أياً كان، حق المطالبة بجدول دوام مهني مرن، يتلاءم والمهام الأسرية التي يؤدونها. وعلى الرغم من أن التشريعات نفسها تكفل للمستخدمين حق رفض الطلبات تلك، فإن الدراسات أظهرت ندرة الحالات التي تقابل بها الطلبات هذه بالرفض من قبل الإدارات المهنية. ليس ذلك فحسب، بل إن من حق الموظف استئناف قرار الإدارة إن جاء بالرفض السلبي. وبالمقارنة فإن نموذج العمل الأميركي القائم على فكرة الحرية المطلقة في أن يحدد الموظف جدول دوامه كما يشاء، لا يخفي ما ينطوي عليه من نزعة داروينية على صعيد الأجور والفوائد المهنية التي يتمتع بها الموظفون. وعادة ما تعود النتائج السلبية في هذا النظام، على النساء العاملات بنظام الدوام الجزئي، سواء على صعيد الأجور والحقوق المهنية، أم على صعيد ارتقاء السلم الوظيفي نفسه. وكما تقول الأستاذة "جانيت جورنيك"، التي سبق لها أن أجرت الكثير من الدراسات الأكاديمية المتخصصة في سياسات الأسرة، في جانبي المحيط الأطلسي، فنحن نعلم أن سياسات العمل الصديقة للأسرة، تحفز مشاركة القوة العاملة بقدر أكبر. ولكن هل تؤثر هذه السياسات عملياً وإيجابياً على الأسر من حيث الدخل والعائد والفوائد المهنية؟ لا يدعم الواقع المهني كما نراه هنا في الولايات المتحدة الأميركية الإجابة بنعم عن هذا السؤال. ولذلك فإن المطلب القائم هو أن تعود هذه السياسات بفوائد مهنية أفضل، للغالبية الغالبة من الأمهات العاملات بنظام الدوام الجزئي. ولعل المجال الأفضل الذي يبدأ منه تحسين هذه السياسات، هو مجال الرعاية الصحية الشاملة. فمتى ما زالت الفروق التي يحظى بها الأفراد في مستوى الرعاية الصحية المقدمة لهم، بصرف النظر عن كونهم يعملون بدوام كامل أم جزئي، فعندها يتحقق الواقع الفعلي الملموس لحرية العمل المطلقة للآباء العاملين من الجنسين. ولعل النموذج الأوروبي المعمول به حالياً في مجال الرعاية الصحية، فيه من المزايا التي تغري بعض الأميركيين هنا، لكونه يحرم التمييز في تقديم الخدمات الصحية، على أساس العمل الجزئي والدوام الكامل. غير أنه يظل قاصراً عن تحقيق الهدف الأمثل، الرامي إلى إزالة أي نوع من أنواع التمييز بين المرضى والمحتاجين للرعاية الصحية. ومن بين القضايا التي لا تزال تحتفظ بحيويتها وحرارتها في سوق العمل الأميركية، أن العطلة الأسرية غير مدفوعة الأجر، لا تزال محل خلاف كبير بين العاملين والمستخدمين، ولذلك فهي تتطلب تشريعاً خاصاً بها، لصالح الأسرة. كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"