يوم الخامس والعشرين من يوليو الجاري لم يكن يوماً كغيره من الأيام في تاريخ الهند الحديث، ففيه تابع مئات الملايين من الهنود مشهداً لم يألفوه من قبل... مشهد مواطنة سبعينية ترتدي الساري التقليدي الأبيض وتضع في وسط جبهتها دائرة "البندي" الحمراء الصغيرة وتستقل واقفة سيارة جيب عسكرية مكشوفة لاستعراض القوات المسلحة برفقة كبار جنرالات الجيش من قصر "راشتراباتي بهافان" الرئاسي إلى مبنى البرلمان الاتحادي في نيودلهي، وذلك ضمن مراسم تنصيبها رسمياً كرئيسة للهند التي لم تترأسها امرأة من قبل منذ استقلالها قبل ستة عقود. صحيح أن منصب رئاسة الجمهورية في الهند منصب شرفي، ومن يشغله لا يتمتع بصلاحيات كبيرة وواسعة كرئيس الحكومة، لكنه في الوقت ذاته منصب رفيع يختار من يتبوأه بدقة وعناية كبيرتين، لأن الأخير سيصبح حينذاك ضمير الأمة وحامي دستورها والحارس على ديمقراطيتها وعلمانيتها، فضلاً عن الدور الحاسم، الذي يمكن أن يلعبه أثناء الأزمات السياسية مثل وجود برلمان معلق لا تتمتع فيه أي من الكتل السياسية بنفوذ كاف لتشكيل الحكومة الاتحادية منفردة ولا تستطيع تلك الكتل الاتفاق على حكومة ائتلافية. ولأن الكيان الهندي منذ تأسيسه في العام 1947 اعتمد الديمقراطية والعلمانية نهجاً وخياراً نهائياً لا رجعة فيه، فإنه لم ينشغل قط بدين أو مذهب أو جنس أو اثنية المرشح للرئاسة، وإنما كان انشغاله محصوراً بتاريخ المرشح ومدى كفاءته وولائه وإخلاصه لوطنه. وفق هذه المعايير فقط، معطوفة على القليل جداً من المعايير الأخرى ذات الصلة بالتجاذبات السياسية، جرت كل عمليات انتخاب رؤساء الجمهورية السابقين من دون التوقف عند دياناتهم أو أعراقهم أو أصولهم الجهوية أو طبقاتهم الاجتماعية. ودليلنا هو أن أسلاف رئيسة الجمهورية الجديدة "براتيبها باتيل" (72 عاماً) جاؤوا من ديانات واثنيات وثقافات ومناطق مختلفة من دون محاصصة. فالرئيس الأول للهند دكتور القانون والناشط السياسي "راجيندرا براساد" كان هندوسياً من ولاية بيهار الشمالية، والرئيس الثاني "رادكريشنان" كان أكاديمياً هندوسياً متخصصاً في الفلسفة والأديان المقارنة من ولاية "تاميل نادو" الجنوبية، والرئيس الثالث "ذاكر حسين" الذي توفي أثناء ولايته كان أكاديمياً وأديباً مسلماً من حيدر آباد، والرئيس الرابع "في جيري" كان نقابياً هندوسياً من ولاية أوريسا الشرقية، والرئيس الخامس خريج كلية سانت كاترين في كامبردج "فخر الدين علي أحمد" الذي توفي أيضاً أثناء ولايته كان سياسياً مسلماً من ولاية "آسام" في شمال شرق البلاد، والرئيس السادس "سانجيفا ريدي" كان سياسياً هندوسياً من ولاية "أندرا براديش" الجنوبية، والرئيس السابع "زيل سينغ" كان ابن نجار فقير وناشط صلب ضد الطبقية والإقطاع من طائفة السيخ في ولاية بنجاب الشمالية الغربية، والرئيس الثامن "فينكاتارامان" كان قاضياً واقتصادياً هندوسياً من ولاية "تاميل نادو"، والرئيس التاسع خريج كامبردج وكلية القانون في "هارفارد" الدكتور "شانكار شارما" كان أكاديمياً هندوسياً رفيعاً من ولاية "ماديا براديش" الوسطى، والرئيس العاشر الاقتصادي والصحفي والدبلوماسي العصامي "كوتشيريل نارايانان" كان مسيحياً كاثوليكياً من ولاية كيرالا الجنوبية ومنحدراً من طبقة "الداليت" المصنفة في قاع التقسيمات الطبقية للمجتمع. أما الرئيس الحادي عشر "أبوبكر زين العابدين عبدالكلام" ابن الصياد الفقير الذي تسلق سلالم المجد بعصامية فذة ونبغ في أدق التخصصات العلمية، فصار أباً لصناعة الصواريخ الباليستية وبرنامج الهند النووي وكان مسلماً من ولاية "تاميل نادو". صحيح أن الحزب الحاكم في نيودلهي عادة ما يكون له تأثير لجهة الإتيان برئيس ينتمى إليه أو يتعاطف معه على الأقل، إلا أن هناك من السوابق ما يخالف هذا المبدأ، لعل أبرزها أن من رشح البروفسور المسلم عبدالكلام لتولي الرئاسة ووجه نوابه المركزيين والإقليميين إلى التصويت لصالحه هو حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي المتهم بالتشدد الديني يوم كان في السلطة، رغم أنه لم يعرف عن عبدالكلام يوماً تعاطفه أو تماهيه مع سياسات هذا الحزب. يومها لم يجد حزب المؤتمر المعارض أمامه سوى السير مع غريمه كيلا لا يقال – هو المعروف تقليديا بجذبه لأصوات الناخبين المسلمين أكثر من غيره – إنه أحبط حقاً مشروعاً لمواطن هندي مسلم في الوصول إلى سدة الرئاسة فتسجل بهاراتيا جاناتا بذلك نقطة ضده. وكان المأمول إن يواصل حزب "المؤتمر" وقد صار اليوم في الحكم ذلك الموقف عبر إبقاء البروفسور عبدالكلام في منصبه لفترة جديدة– وهو ما يجيزه الدستور بدليل تولي الرئيس الأول "راجيندرا براساد" المنصب لفترتين متتاليتين ما بين عامي 1952 و 1962 – خاصة وأن الأخير حظي وما يزال يحظى باحترام وإجماع منقطع النظير على مستوى البلاد كلها. لكن يبدو أن لحزب "المؤتمر" حسابات أخرى أو ربما أراد بعدم التجديد لعبدالكلام التخلص من أحد آثار حقبة زعامة "بهاراتيا جاناتا" التي حرمته من السلطة لسنوات طويلة. غير أن المؤتمر من جهة أخرى أحسن صنعاً حينما جير أدواته البرلمانية ونفوذه لصالح انتخاب امرأة لخلافة عبدالكلام، فرسخ بذلك مفهوماً شائعاً بأنه الأكثر محاربة للتمييز "الجندري" والأسبق إلى وضع النساء في المناصب العليا، بدءاً من إرساله للسيدة "فيجايا لاكشمي" إلى نيويورك في الخمسينيات لتصبح أول امرأة تترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنحه رئاسة مجلس الشيوخ إلى "نجمة هبة الله" حفيدة مولانا أبوالكلام آزاد أحد زعلماء الحركة الوطنية المسلمين الذين لم يؤيدوا تقسيم الهند البريطانية، وطرحه الكثير من الأسماء النسائية ضمن مرشحيه لعضوية البرلمان المركزي والمجالس التشريعية المحلية على مدى العقود الماضية، وانتهاء باختياره "سونيا غاندي" لقيادة حزب البلاد الرائد، ناهيك عن الحدث الأهم من كل هذا وذاك ألا وهو إيصاله للسيدة "أنديرا غاندي" في عام 1966 إلى رئاسة الحكومة لتصبح ثاني امرأة تقود بلداً على مستوى العالم بعد رئيسة وزراء سريلانكا الأسبق "سيريمافو بندرانيكا". لن ندخل في هذه العجالة في تفاصيل سيرة رئيسة الهند الجديدة لبيان مدى صواب اختيارها لهذا المنصب الكبير. إذ يكفي أن نقرأ عنها العناوين التالية: بطلة في تنس الطاولة في شبابها، ملكة جمال الجامعات لعام 1962 ، محامية بارزة حاصلة على ليسانس وماجستير القانون من كلية بومباي الحكومية وجامعة مهاراشترا، أم وجدة مثالية، نائبة في المجلس التشريعي لولاية "مهاراشترا" ما بين عامي 1962 و 1985، نائبة لرئيس مجلس الشيوخ ما بين عامي 1986 و 1988، مشرعة في البرلمان الاتحادي ما بين عامي 1991 و 1996 ، نائبة وزير التعليم في نهاية الستينيات، وزيرة للسياحة والرعاية الاجتماعية والإسكان في حكومات ولاية "مهاراشترا" المحلية، أول امرأة تحكم ولاية "راجستان الغربية"، مؤسسة سلسلة من المدارس والكليات الخاصة في مومباي، مؤسسة وراعية لصندوق "شرام سادانا" لتمويل وإدارة فنادق للنساء العاملات في نيودلهي ومومباي، مساهمة في تأسيس عدد من المصانع والمصارف التعاونية ومراكز التدريب الصناعي ومدارس إيواء الأطفال الفقراء. وبالرغم من كل هذا، فإن ما أفسد فرحة نساء الهند بهذا الحدث هو أن انتخاب "براتيبها" لم يحز على إجماع شعبي كامل، ليس فقط بسبب الجدل حول تقدم سنها واحتمالات عجزها عن القيام بمهامها الرئاسية على أكمل وجه، وإنما أيضاً بسبب قيام قوى سياسية معارضة بالنبش في سيرتها وتحميلها مسؤوليات ما قيل إنه فساد حدث في المؤسسات التي أنشأتها وأدارتها، فضلاً عن اتهامها باستغلال نفوذها لإعاقة تطبيق القانون على أحد أشقائها، وهو ما وصفه "حزب المؤتمر" بالاتهامات المبالغة والمغرضة.