آن أبيلباوم رغم كثرة الآراء والاستراتيجيات الخاصة بحل المأزق العراقي، المثارة في ساحات الجدل الأميركي العام في هذه الأيام، فإننا سنقف عند تصور السيناتور هيلاري كلينتون، المرشحة الرئاسية عن "الحزب الديمقراطي"، لخطة زميلها باراك أوباما، والتي أوصى فيها بسحب القوات من العراق وإعادة نشرها في أفغانستان. الملاحظ أن للأعضاء "الديمقراطيين" في مجلس النواب، خطة ترمي لسحب الجزء الأكبر من قواتنا في العراق بحلول شهر مارس المقبل، بينما يرى زملاؤهم في مجلس الشيوخ، رأياً آخر يهدف إلى سحب القوات كلها بحلول شهر أبريل. وهناك من "الجمهوريين" في مجلس الشيوخ، من بدأ مطالبة الرئيس جورج بوش بتقليص عدد القوات العسكرية المرابطة في العراق، بينما يرغب "جمهوريون" آخرون في إعطاء مهلة أطول لاستراتيجية زيادة عدد القوات التي بدأ تطبيقها مؤخراً. وإذا ما تابعت الأخبار واستمتعت إلى محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون واطلعت على ما ينشر عبر الشبكة الدولية، فإنك ستلاحظ اتجاهاً عاماً يرى أن بلادنا سوف تكون مجدداً بخير وفي عافية، سواء كثر عدد جنودنا في العراق أم قل، أم أصبحت أميركا بلا جنود أصلاً. غير أن المفقود هنا بين هذه الآراء، وهو ما توافق عليه هيلاري كلينتون، هو أن كلاً منها يحتوي على بذرة كارثة ما بداخله، سواء انتبهنا لذلك أم لم ننتبه له. ولنبدأ مثلاً بالدعوة إلى نشر مزيد من القوات في العراق. فهل مازلنا بحاجة إلى تفنيد الخطأ في تلك الخطة، والكثير من أعضاء الكونجرس لا يكفون عن تبيان عيوبها وتفنيدها يومياً؟ غير أن هذا الامتناع من جانبي لا يقف حائلاً دون إبراز ما هو بديهي في هذا الخطأ. فالمزيد من الجنود في العراق لا يعني شيئاً آخر سوى مزيد من القتلى والضحايا بينهم. بل الأسوأ من ذلك أن مجرد بقاء جنودنا هناك، تحول إلى وقود لتأجيج نيران العنف الطائفي في الكثير من أنحاء العراق، لكونه يثير غضب العراقيين، ويوفر مبرراً لتصعيد تنظيم "القاعدة" لعمليات العنف التي يشنها يومياً هناك. ثم إننا جربنا خطة زيادة عدد الجنود، ولكنها لم تؤد إلى النتائج المرجوة منها على أية حال. وهذا ما يدفعنا إلى القول بعدم القدرة على المحافظة على المعدل الحالي لزيادة عدد القوات، ناهيك عن الدعوة إلى نشر مزيد من الجنود! أما أن نخفض عدد الجنود، فهذه تبدو مساومة معقولة لا بأس بها، لكونها لا تدعم خط التوقف وقطع المهمة التي بدأناها، بل تدعو إلى الإبقاء على عدد قليل من القوات، للقيام بمهام تدريب الجنود العراقيين ولحراسة الحدود، فضلاً عن قتال الإرهابيين. لكن أي مغزى لخطة انهزامية كهذه، في معمعة حرب أهلية تخوضها الفصائل العراقية المختلفة ضد بعضها البعض؟ وهل يعقل أن نعلن انسحابنا إلى النقاط الخارجية البعيدة من قلب المعركة، ونعلن للعراقيين الذين غزونا بلادهم من أجل إنقاذهم، أننا لا نرغب في رؤية مزيد من القتلى والضحايا بين جنودنا؟ والحقيقة أنه لا شيء أصعب من حراسة الحدود ومواجهة الإرهابيين عسكرياً، ما لم نكن طرفاً أصيلاً في النزاعات الطائفية والسياسية الدائرة في عراق ما بعد الغزو. وتنطبق الصعوبة نفسها على الجزء المتعلق بتدريب العراقيين من هذه الخطة. فكما أوضح ستيفن بيدل في مقاله المنشور في صحيفة "واشنطن بوست" خلال الأسبوع الماضي، فإن هذه المهمة تظل مستحيلة، دون أن تكون قواتنا في قلب المعارك العسكرية الدائرة بين مختلف الفصائل والأطراف العراقية المتنازعة فيما بينها. ولنذكر أن مزيداً من العنف العراقي لا يعني شيئاً آخر سوى مزيد من القتلى والضحايا بين قواتنا، بل وبين العراقيين أنفسهم، ما يهزم الهدف الرئيسي للخطة المذكورة بكاملها. وبهذا نصل إلى تفنيد فكرة اللاجنود هذه. فرغم أصداء الترحيب الواسع الذي تلقاه هذه الدعوة في نفوس الأميركيين المتعطشين للانسحاب الكامل من العراق، بأي ثمن كان، وأولئك الذين يقول لسان حالهم "ألم نقل لكم من قبل؟"، إلا أنها لا تخفي انطواءها على قدر كبير من النفاق والمداهنة السياسية. ولكي ننظر إلى هذا النفاق بعين أخرى، فلنطرح السؤال من زاويته المقابلة: كم من الذين يصعدون الضغوط على إدارة بوش ويحثونها على التدخل لإنهاء جرائم الإبادة الجماعية التي تجري في إقليم دارفور السوداني، سوف يفعلون الشيء نفسه، ما أن تبدأ مجازر الإبادة الجماعية بين العراقيين، منذ اللحظة التي تغادر فيها قواتنا بلادهم؟ فطالما أن دوافع المطالبة بالتدخل لوقف تلك الفظائع المرتكبة بحق المواطنين واحدة، سواء كانت هذه الفظائع في دارفور أم العراق، فإنه من الرياء المفضوح أن نطالب الآن بانسحاب قواتنا من العراق، كي تقع المجازر، ثم نعود للمطالبة بإعادة نشرها مجدداً مهما كلف ذلك من ثمن! والحل هو أن نكون أكثر واقعية وأن نبحث عن التعديلات الملائمة لسياساتنا وخططنا المتبعة في العراق، مع العلم أنه ما من حلول سحرية ولا بديهية للمأزق الذي نحن فيه الآن. كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"