بين فترة وأخرى، تصدر عن مسؤولين إيرانيين كبار، تصريحات مجلجلة تثير البلبلة والحيرة والاستغراب لدى دول مجلس التعاون الخليجي، لأنها تمس قضايا حساسة لا يمكن لمثل هذه التصريحات والمواقف أن تسهم في حلها. إن من المؤسف أن يتذكر المرء أنه عندما ولجت الثورة الإيرانية، اعتقد عرب الخليج أنها ستغير كافة المواقف العدائية السابقة تجاههم، وأنها ستلغي جميع تطلعات الشاه التوسعية تجاه أراضيهم وثرواتهم. لقد تعززت تلك الاعتقادات بانفراط عقد علاقة إيران الحميمة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وبدا واضحاً في ذلك الوقت بروز شكل جديد من الراديكالية الإيرانية كبديل للراديكالية العربية التي ظهرت في أعقاب الحركة الكونية الثانية. إن القادم الجديد شكل تحدياً حقيقياً لدول المجلس التي شهد بعضا قلاقل شكلت مؤشراً دق ناقوس الخطر لديها، والمهم هو أنه بدا واضحاً أن تطلعات الشاه التي كان من الممكن السيطرة عليها، قد استبدلت بمطامع وتطلعات وتحديات أشد وطأة وخطراً. لقد كانت ردود فعل دول المجلس ذات شقين: الأول هو قيامها بتعزيز إمكانياتها الدفاعية ونظمها الأمنية لدحض أية محاولات لإثارة القلاقل السياسية والأمنية لديها، الأمر الذي أثر كثيراً على خطط التنمية الشاملة التي تقوم بها، وتشير الأدلة إلى أنها نجحت حتى الآن، في الحد من إمكانية قيام اهتزازات أو اختلالات أمنية مؤثرة. والشق الثاني هو قيام دول المجلس بزيادة تحالفاتها الاستراتيجية والعسكرية مع الولايات المتحدة، ومنحها تسهيلات استراتيجية ولوجستية على أصعدة شتى. وفي نفس الوقت تحاول جميع دول المجلس إبقاء أبوابها مفتوحة أمام إيران، وتسعى إلى التأثير على حكومتها لحملها على اتخاذ مواقف أقل تشدداً وراديكالية تجاه كافة القضايا المشتركة. فدولة الإمارات مثلاً تحتفظ بعلاقات جيدة مع إيران رغم استمرار الأخيرة في التشدد تجاه مسألة الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران، والدليل على ذلك هو قيام رئيس جمهورية إيران بزيارة رسمية للإمارات. ولكن رغم ذلك فإن دول المجلس تجد نفسها في حالة من الدوران في حلقة مفرغة، حيث لم تتواجد حتى الآن أية حلول نهائية مرضية للمشاكل القائمة بينها وبين إيران. إن التصرفات المتناقضة لإيران تجاه دول المجلس تثير الحيرة والاستغراب، فإيران تبدو وكأنها لا تريد أن تفهم الواقع الذي غدا عليه الخليج بعد احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، لذلك فإنه على ضوء تطلعات إيران ورغباتها في التوسع والهيمنة، تجد دول الخليج نفسها مجبرة على حماية نفسها من الأذى أياً كان مصدره، والوسيلة الناجعة المتاحة أمامها هي التحالف مع حلفاء خارجيين أقوياء لديهم مصالح حيوية في المنطقة. إن الولايات المتحدة ودول الغرب الفاعلة الأخرى، عادت إلى المنطقة عسكرياً وبشكل مباشر، وتلك العودة تعني أنهم راغبون في حماية مصالحهم ضد أي طرف يحاول المساس بها ولو تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية المباشرة على النحو الذي حدث ضد العراق عامي 1991 و2003 وضد "طالبان" في أفغانستان عام 2001. إن جل ما تطمح إليه دول المجلس هو العيش بسلام مع كافة جيرانها وتنمية المصالح المشتركة معهم، خاصة التعاون الاقتصادي، ولكن يبدو أن إيران لا تريد أن تفهم هذا الجانب بشكل صحيح، إنما تريد إملاء شروطها أيضاً، إنها لا تريد أن تعي أنها اقتصادياً تعتبر الطرف الأضعف في معادلة العلاقات الاقتصادية مع دول المجلس، خاصة إذا ما حدث تكتل قوى بين دوله على الصعيد الاقتصادي. إن بروز مثل هذا التكتل سيشكل قوة اقتصادية مفيدة وسوقاً تصريفية واستيرادية واعدة لإيران ضمن سعيها إلى إعادة تنمية ذاتها، ومن الممكن لدول المجلس القوية اقتصادياً أن تشكل مصدراً مهماً من مصادر تدفق رؤوس الأموال الاستثمارية التي تحتاجها إيران، بالإضافة إلى ما تشكله دول المجلس من سوق قادرة وواعدة على تصريف المنتوجات الإيرانية. إن دول المجلس تعي أنه على المدى البعيد، وبغض النظر عن المعطيات الدولية الراهنة، أن إيران جزء من الخليج بحكم الجغرافيا التي لا يمكن استبدالها، وهي جزء مهم فيه ولابد لها أن تلعب دورها فيه، وذلك في إطار من الاحتمالات الواقعية التي تعتمد إلى حد كبير على قبول الأطراف الدولية الأخرى الفاعلة في شؤون الخليج لطبيعة ومجال ذلك الدور. ولكن قبل أن يحدث ذلك، على إيران أن تفهم أولاً الدروس التي تلقتها جارتها العراق جيداً، لكي لا تفكر في استخدام وسائل غير محمودة العواقب ضد جيرانها، وفي إثارة القلاقل لديهم عبر إدلاء مسؤوليها بتصريحات رنانة بين الفينة والفينة، إن آثار مثل تلك التصريحات هو التدمير أكثر من الفائدة، حتى بالنسبة لمصالح إيران ذاتها. إن منبع الحيرة هو أنه حتى هذه اللحظة، ليس من الواضح ما الذي تريده إيران من جيرانها أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وما هو موقفها بالتحديد منهم، وما هو الدور الذي تريد أن تلعبه في شؤون الخليج على ضوء الواقع الدولي الجديد الذي يعيشه وتسبب فيه عبث استخدام القوة واللجوء إلى وسائل العنف والإرهاب؟ إن إيران وحدها هي التي تستطيع أن تبادر بشكل واقعي تجاه جيرانها لكي تكسب ثقتهم، فهم جميعاً جاهزون للتعامل معها على أساس من المساواة ومن مبادئ حسن الجوار، وجميع شعوب الخليج، بما في ذلك الشعب الإيراني في انتظار ذلك اليوم. المستشار الثقافي بسفارة دولة الإمارات العربية المتحدة-واشنطن