من أهم المقالات التي كتبها صحفي غربي (أميركي هذه المرة) والتي وجدت طريقها إلى "النيويورك تايمز" (9 يونيو 2007) مقال "ستيفين إيرلنجر" بعنوان "يتساءل الإسرائيليون هل كسبنا شيئًا من حرب 1967؟" وهو سؤال مصيري مهم. يخبئ سؤالاً أعمق وهو: هل يمكن لإسرائيل أن تحقق المشروع الصهيوني بالقوة العسكرية؟ والإجابة كما يبدو هي بالنفي. ولعل عبارة الروائي الإسرائيلي عاموس عوز عن "إن نصر 1967 حلم مجرد أن تصل إليه ترى عيوبه". ويشير مقال "ايرلنجر" إلى أن الجيش الإسرائيلي هو رابع أقوى جيوش العالم، ولكنه مع هذا لا يمكنه تحقيق الأمن والأمان للشعب الإسرائيلي من خلال عمليات البطش العسكرية المستمرة. ويؤكد المقال البعد التاريخي لظاهرة القوة الإسرائيلية، ويؤكد ما قاله المؤرخ الإسرائيلي "يعقوب تالمون" عن "عقم الانتصار" العسكري الإسرائيلي. فهو عقيم لا يحقق السلام المنشود. ثم يرسم الكاتب صورة لإسرائيل عشية حرب 1967:"كانت إسرائيل في دوامة عدم الثقة بالنفس، و"كان الإسرائيليون في الأشهر السابقة لحرب 67 يرون أن تجربة استقلال دولة إسرائيل، والتي استمرت 19 عاماً، لم تزل قائمة على أسس غير ثابتة! وكانت هناك مخاوف من السقوط على أيدي الجيوش العربية، وضجر شديد من القيادة السياسية، وقلق من الكساد الاقتصادي، وقلق من انقسام إسرائيل إلى دولتين: دولة علمانية معادية للدين من ناحية، أو كما يسميها الإسرائيليون دولة المتوجهين نحو اللذة (هؤلاء الذين يرتادون الشواطيء beachgoers ويقضون سحابة يومهم في التمتع بالحياة الدنيا). ومن ناحية أخرى دولة المتدينين المتزمتين الذين يريدون تطبيق كل أحكام الشريعة اليهودية، وهي في غاية القسوة. وهكذا كانت إسرائيل عشية حرب 67. ولكن بعد مرور أربعين عاماً أصبحت إسرائيل دولة ثرية"، وأصبح جيشها من أقوى الجيوش في العالم، إلا أن الرأي العام مايزال على حاله، فهناك رعب من أسلحة إيران النووية، ومن ضعف القيادة الإسرائيلية واضطرابها. ثم جاءت حرب لبنان لتظهر مدى ضعف القوة العسكرية الصهيونية التي كان الإسرائيليون يرون أنها درعهم الواقي الوحيد. وليس بالغريب أن يجأر الإسرائيليون بالشكوى، وأن يشعروا بالقلق. فإسرائيل دولة صغيرة نشأت على رماد الهولوكوست –كما يتصورون-، وبالتالي فإن معظم سكانها لديهم مخاوف مما هو أسوأ. فقد مر على انتصار إسرائيل أربعون عاماً ولا يزال هناك جدل مثار حول أي نوع من الدول تكون إسرائيل، وعن أثر الأربعين عاماً على الدولة الصهيونية وعلى يهود العالم وعلى الهجرة إلى إسرائيل. وتتتالى الآراء الإسرائيلية عن الدولة الصهيونية بعد "الانتصارات" العسكرية العديدة التي حققتها. وتقول "ديبورا هاريس"، وهي وكيلة أدبية إسرائيلية، أن انتصار 1967 "كان بمثابة أقوى شيء حدث في حياتها"، وتردف قائلة "وأنها قررت أنه من المستحيل أن تنأى بنفسها عن الانتصار الذي تحقق في تاريخ اليهود". وتقول إذا كان الإسرائيليون هم الذين أحرزوا هذا النصر وحدهم "فأنا يجب أن أكون جزءاً من هذا الشعب، ولو كان الإله هو من حقق النصر، فأريد أن أكون جزءاً من المعجزة". ولكنها بدأت تراجع نفسها، فهي الآن تقول: "لأول مرة في حياتي، أفكر في أن إسرائيل يمكن أن تكون مجرد ظاهرة عابرة". والأمر بالنسبة لها ليس مجرد الخوف من أسلحة إيران النووية بل من الجدل الذي لا جدوى منه و"تهور القادة الفاشلين". وتردف قائلة "إن المسألة ليست مسألة بقائنا هنا، بل كيف سيكون حالنا في غضون 30 أو 40 عاماً؟" وهكذا يعود موضوع النهاية متلبساً بلباس آخر. ويبدو أن الإسرائيليين اكتشفوا أن احتلال الضفة الغربية لمدة أربعين عاماً هو الذي سيدمر إسرائيل. فيقول الكاتب "تشاك فريليش"، نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إن حرب 1967 "أقنعت العرب بأن إسرائيل هنا لتبقى. لكنها أصبحت وباء، فالاحتلال يفسد كل شيء على المدى البعيد في أي مجتمع". يقول توم سيجيف، وهو مؤرخ إسرائيلي نشر مؤخراً كتاباً عن حرب 67، "لأعوام كثيرة كنا نظن أن الاحتلال مؤقت. لكن أربعين عاماً هي فترة ليست بالقليلة. والآن لم أعد أؤمن بالسلام. فنحن نستطيع إدارة النزاع، لكننا لا نستطيع الانتهاء منه". ونفس الفكرة يعبر عنها "دان ميريدور"، المحامي الدولي والوزير السابق الذي انتقل من "الليكود" في "اليمين" إلى "الوسط"، وكان في العشرين من عمره عندما شارك في حرب 1967 حيث كان يحارب على الدبابة التي كانت تتقدم الصفوف في الهجوم على قناة السويس، "أتذكر أنني حين سمعت عن تحرير القدس بكى كل من في الدبابة (فرحاً). كان الأمر يبدو وكأن الإله قد أعطى وعداً بأن يعيد اليهود إلى أرض إسرائيل المذكورة في التوراة". ويردف "ميريدور" قائلاً: "نعم لقد جلبت الحرب الكثير من المكاسب من بينها "بداية، إن لم تكن عملية السلام، فهي عملية قبول" إسرائيل كحقيقة دائمة". ولكن كما لا توجد أطعمة مجانية، فلا توجد معجزات مجانية أيضاً. إن فكرة الاستحواذ على الأرض كلها واستقطاب كل العرب إلى إسرائيل كلفتنا الكثير أخلاقياً وسياسياً. فلا نستطيع أن نستمر في الاحتلال إلى الأبد. ولهذا يقول كثير من الإسرائيليين يجب أن نتخلى عن الأفكار التوراتية، ولنقم بتقسيم الأرض". ويكتب "تشاك فريليك"، مستشار الأمن القومي السابق في عهد "أرييل شارون"، كتاباً عمّا يسميه سياسة الدولة عديمة الفائدة، حيث تصوت الأحزاب السياسية وفقاً لأهوائها. ولا يوجد سر لم يُنشر وقلما يوجد ترابط سياسي. أما "آري شافيت"، المعلق الصحفي المميز، فتنتابه المخاوف من أن إسرائيل لا تفقد قيمها في عصر أكثر رأسمالية وفساداً وحسب، بل وأصبحت حدودها في خطر متزايد ومستمر. ويقول إن حرب الصيف الماضي مع "حزب الله" في لبنان أوضحت مدى تدهور القيادة والجيش. إن بعضهم يشعرون هنا أنهم يعيشون في دولة أوروبية فقيرة مثل اليونان وليس في الشرق الأوسط. ويردف قائلاً "إن الشباب الإسرائيليين اليوم جيل الـ Yuppies، الغارق في الاستهلاكية وفى آخر الموضات وماركات السيارات لا يعرف كيف يتعامل مع العرب. وأهم شيء هو أن تعرف كيف تتعامل مع جيرانك لتكسب احترامهم". ويقول "جوسي كلين هاليفي"، الكاتب والمحلل الإسرائيلي، إن الصهاينة في البداية كانوا يخططون لبناء "دولة عادية"، لكنهم كانوا في واقع الأمر يخططون لدولة طبيعية من الخارج لكنها استثنائية من الداخل."ثم يعود إلى هاجس النهاية فيسأل هاليفي:"هل ستظل إسرائيل قائمة بعد خمسين عاماً؟ فالناس الآن يتحدثون عن ذلك فيما بينهم." هذه هي الإجابة الإسرائيلية على انتصار 67، وهى إجابة تدل على إحساس عميق بعقم الانتصار وحتمية النهاية. والله أعلم.